دلالات هروب الأسرى الفلسطينيين من سجن «جلبوع»

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

نجح ستة من الأسرى الفلسطينيين فى الهروب، أو بالأحرى انتزاع الحرية من أحد أشد السجون الإسرائيلية تحصيناً وفقاً للتصنيفات الأمنية الإسرائيلية ذاتها، والمسمى بحصن «جلبوع». قصص الهروب من السجون فى إسرائيل منذ عام 1956 وتكررت فى عامى 1986 و2014، أو فى غيرها من البلدان ليست جديدة، والسينما الأمريكية أفاضت فى عديد من الأفلام الشهيرة فى كشف كيفية هروب العديد من السجناء من سجون مُحصنة وذات طبيعة خاصة جداً، كأن تكون فى جزيرة صخرية معزولة فى وسط البحر، أو فى سفينة عملاقة يُعاد تصميمها بشكل خاص لا يعرف السجناء فيها أنهم بالفعل فى بحر هائج بعيد عن اليابسة بمئات الأميال.

الذين شاهدوا تلك الأفلام الهوليوودية كثيراً ما تعاطفوا مع محاولات السجناء للهروب نحو فضاء الحرية، رغم علم الجميع أن الأمر هو مجرد خطوة نحو بداية جديدة غالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر والهروب الدائم من محاولات الشرطة والأجهزة الأمنية، فما بال حجم التعاطف مع أسرى انتزعوا حريتهم بأيديهم غصباً من أيدى السجانين البغضاء، رغم كل القيود والإجراءات المشددة والمخاطر المؤكدة إن كشفت عملية هروبهم قبل أن تكتمل. وكل جريمتهم أنهم مناضلون من أجل حرية شعبهم من الاحتلال الاستيطانى الذى ينكر وجودهم وهويتهم، وينظر إليهم كبشر لا حقوق لهم فى الحياة أو فى غيرها.

الأسرى الفلسطينيون الستة، منهم أربعة محكوم عليهم أحكام سجن مدى الحياة، أحدهم وهو محمود عارضة عمره 46 عاماً، وهو معتقل منذ 24 عاماً ومنذ أن كان عمره 22 عاماً، واثنان محتجزان إدارياً منذ العام 2019، وأصغرهم مناضل نفيعات 32 عاماً، والذين نجحوا فى انتزاع حريتهم عبر فتحة فى تربة صخرية بعيداً عن جدران السجن، انطلقوا منها إلى حيث يجدون بإذن الله تعالى الأمن والأمان والحرية، وربما معاودة نضالهم من أجل شعبهم وقضيتهم العادلة ولو بعد حين، لا يمثلون أنفسهم كأشخاص، بل كرموز لقضية تحرر وطنى مشروع فيها كل أشكال النضال. وكل منهم، ذو خبرة نضالية عريضة ضد الاحتلال، ينتمى أحدهم إلى حركة فتح وينتمى الخمسة الآخرون إلى حركة الجهاد الإسلامى، فبالرغم من التباين الفكرى والأيديولوجى بين الحركتين، فإنهم فى رحلة انتزاع الحرية هذه قدموا الدليل العملى على أن النضال من أجل حرية الشعب هو القاسم المشترك الذى تذوب أمامه كل الخلافات والتباينات.

لقد شكلت عملية انتزاع الحرية من أشد السجون الإسرائيلية تحصيناً صدمة وإهانة وإذلالاً كبيراً للمنظومة الأمنية الإسرائيلية بما فيها الجانب الاستخباراتى محل المباهاة الإسرائيلية. ولنعُد قليلاً إلى الوراء حيث وقف رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق نتنياهو أمام حشد من الإعلام المحلى والدولى متباهياً بقيام المخابرات الإسرائيلية باقتحام مواقع إيرانية مؤمّنة حيث تمت سرقة وثائق مهمة خاصة بالبرنامج النووى الإيرانى، وفى كل جملة قالها حملت إشادة بجهاز مخابراته الذى يفعل المستحيل دون أن يتم كشف أمره.

لكن فى حالة انتزاع الحرية الفلسطينية هذه يبدو الأمر معكوساً تماماً. لقد فشلت المنظومة الأمنية والاستخبارية ولم تفعل شيئاً أمام إرادة أسرى أصروا على نيل حريتهم بأيديهم. وهذا التقييم العام هو محل اتفاق بين المحللين الإسرائيليين أنفسهم، واتفاق بين المسئولين عن إدارة منظومة السجون التى يقبع فيها الأسرى الفلسطينيون بالآلاف منذ أكثر من أربعين عاماً. واستناداً للمصادر الإسرائيلية نفسها فثمة حالة ارتباك شديدة فى تحديد كيفية الهروب، وفى احتمال الحصول على مساعدة من طرف خارجى سهل عملية الاختفاء بعد الخروج من الفتحة الصغيرة عبر نفق امتد عشرات الأمتار تحت الأرض إلى ما بعد أسوار السجن.

ويبدو التضارب فى تصريحات وزير الأمن العام عوفير بارليف، إذ ركز على وجود مساعدة خارجية، واستغلال لأخطاء فى هياكل المبنى ووجود فجوات بين حوائط الأقسام سمحت بتحرك الأسرى إلى حيث فتحة الخروج. أما مفوضة السجون الإسرائيلية فقد نفت وجود حفر من الأساس رغم وجود حفرة ممتدة فى عمق الأرض لمسافة عشرات الأمتار، ومؤكدة أن الفتحة كانت مغطاة بلوح تم تحريكه من أجل الخروج. وللتغطية على التضارب فى تفسير كيف تم انتزاع الحرية، أو الهروب بالمفهوم الاحتلالى، سيكون هناك تحقيق مفصل وبيان للرأى العام بالنتائج التى يتم التوصل إليها. وفى كل الأحوال تم الإعلان عن حشد هائل لجهود الشرطة والجيش وكل الأجهزة المعاونة لاعتقال الأسرى مرة أخرى، وبالتالى إفساد كل الرمزيات الإيجابية فلسطينياً والتى انطوت عليها تلك العملية الجريئة. وهو ما يشير إلى طبيعة الصراع الذى سيتم فى الأيام القليلة المقبلة بين الأسرى المحررين وحاضنيهم وبين السلطات الإسرائيلية.

الراجح أن وجود مساعدة خارجية تشير إليها بعض الدلائل الإسرائيلية نفسها مكن الأسرى من انتزاع حريتهم، يعنى أن هناك تخطيطاً مُعداً مُسبقاً لمرحلة ما بعد الخروج إلى فضاء الحرية، وأن ثمة بيئة حاضنة سواء فى الضفة الغربية أو فى بلد عربى مجاور ستوفر لهؤلاء ملاذاً آمناً فى أماكن متعددة إلى حين تقرير كيف ستكون الخطوة التالية. وهنا تقع مسئولية حماية الأسرى المحررين على جهود فلسطينية بالأساس رسمية وشعبية.

والأمر قطعاً لن يكون سهلاً على الصعيد الرسمى نظراً لتداخل مصالح أجهزة معينة مع الجانب الآخر. ويشد الانتباه هنا مثل تلك المناشدات التى خرجت من أسرة اثنين من الأسرى المحررين، بعدم نشر أى معلومة قد تصل إلى أحد من الفلسطينيين وأن يحتفظ بها لنفسه فقط، وتوفير ما يمكن توفيره من المساعدات غير المعلنة وبعيداً عن الأعين الإسرائيلية وغيرها من الأعين الخائنة حماية لحياتهم. وهى مناشدات تعكس قدراً من القلق الشديد على حياة الأسرى من جانب، ومن حدوث خيانة من جانب آخر قد تؤدى إلى إعادة اعتقالهم مرة أخرى أو القضاء عليهم. وهو قلق مشروع لا يمكن إنكاره أو تجاهله. كما يشد الانتباه أيضاً تحذيرات حركة الجهاد الإسلامى من أن يتم اغتيال هؤلاء الأسرى المحررين بأى شكل من الأشكال، لأن الأمر حال حدوثه سيترتب عليه دفع ثمن غالٍ للاحتلال الصهيونى.

مثل هذه العمليات الكبرى والجريئة والمتضمنة رمزيات ودلالات عملية وسياسية وأمنية لا تنتهى بمجرد حدوثها، فهى تجر وراءها الكثير من الأعباء والمناورات، وكلما كانت البيئة الحاضنة ذات انتماءات وطنية راسخة، تدعمت فرص النجاة من أى ردة عكسية. وهو المأمول من شعب اعتاد أن يقدم أبناءه وحياته تضحية من أجل الحرية والاستقلال.