أزمة الزيتون: الأقوياء يواصلون الخداع
ليس هناك أسوأ من أن نبحث عن حلول خارجية لأى مشكلة تواجهنا، والأسوأ من ذلك هو أن نكرر الخطأ ذاته عشرات المرات، ثم ننتظر نتائج مختلفة.
وما يحدث الآن فى مجال الإنتاج الزراعى والتصنيع الغذائى، يستحق وقفة متأنية، قبل أن نفيق بعد عام أو عامين على مزيد من تخريب كل ما أحرزناه من تقدم ونجاح بأيدينا.
والحكاية أن أصحاب مصانع الزيتون يواجهون هذا العام تحديداً مأزقاً كبيراً، ويحاولون توريط الدولة معهم وتوجيه صانع القرار لاتخاذ تدابير شديدة الخطورة تنقذهم من المأزق مؤقتاً، دون أدنى تفكير فى مستقبل إنتاج وتصنيع الزيتون فى مصر.
قبل عامين فقط من الآن، احتلت مصر المركز الأول فى قائمة الدول المنتجة للزيتون، واحتفل الجميع بهذا النجاح غير المسبوق، ولم يسمح أحد للأصوات العاقلة بأن تنطق بكلمة واحدة عن العيوب الخطيرة التى ضربت هذا الإنتاج الغزير عام 2019. وآنذاك أصاب الذهول الجميع من المزارع إلى وكلاء التصدير مروراً بأصحاب المصانع والتجار الذين لم يجدوا أحداً يستمع إليهم، وهم يواجهون ظاهرة غير مسبوقة فى تاريخ هذه الزراعة، فقد حملت الأشجار فى هذا الموسم أكثر من طاقتها، وانتهى الأمر بإنتاج غزير ولكنه معيب لا تنطبق عليه شروط التصدير.
وفى العام التالى - 2020 - حدث شىء آخر تماماً، فقد انهار الإنتاج من 8 أطنان زيتون للفدان، إلى 2 طن فقط، مع استمرار ظاهرة ضعف حبات الزيتون وعدم صلاحيتها لشروط ومواصفات التصدير. وآنذاك تصور الجميع أن الأشجار التى حملت أكثر من طاقتها عام 2019، كان لا بد لها أن تستريح فى العام التالى، وكان المتوقع بالطبع أن تعود الأشجار إلى سابق عهدها بعد عام من تخفيف الأحمال، ولكن الذى حدث عام 2021 كان صادماً للجميع، فقد انهار الإنتاج من 2 طن للفدان العام الماضى، إلى نصف طن للفدان فى أفضل الأحوال، بل إن هناك عشرات الآلاف من الأفدنة لم تنتج شيئاً على الإطلاق!
وبدءاً من شهر أبريل الماضى لم يكن هناك مُزارع زيتون ولا تاجر ولا صانع، إلا وأصبح على علم تام بالمأزق الخطير الذى وقع فيه الجميع، فالعالم كله يعانى من التأثيرات المدمرة لظاهرة تغير المناخ، ومن بينها تراجع إنتاجية معظم المحاصيل، وعلى رأسها الزيتون، ولأن المزارعين هم الحلقة الأضعف فى سلسلة هذه الصناعة الكبيرة، فقد استسلموا تماماً لأقدارهم، وكثيرون منهم يعيشون الآن فى حيرة كبيرة بين الاستمرار فى الزراعة التى تحقق خسائر فادحة، وبين طرح مزارعهم للبيع بأبخس الأسعار، وبين تقليع أشجار الزيتون والبحث عن محصول آخر أكثر أماناً واستقراراً.
وفى قلب هذا المأزق، وكالعادة دائماً، بحث أصحاب المصانع والمصدّرون عن حل ينقذهم من الورطة التى وجدوا أنفسهم فيها: ورطة التعاقد على تصنيع وتصدير كميات ضخمة من زيتون المائدة لدول الاتحاد الأوروبى وشرق آسيا والأمريكتين، وقد اهتدوا مؤخراً إلى حل وحيد تبنّاه أحد البرامج التليفزيونية، ويحاول تسويقه لدى الحكومة، «حتى لا نخسر أسواقاً جديدة فتحناها بعد عقود من العمل المتواصل.. وحتى لا تتعرض العمالة فى المصانع ووكالات التصدير إلى فقدان وظائفهم». والحل الذى يقترحه هؤلاء الأقوياء هو السماح لهم وبأقصى سرعة باستيراد الزيتون الخام من الخارج، ثم تصنيعه فى مصر وإعادة تصديره، والأهم من ذلك كله هو إعفاؤهم من الرسوم والجمارك والضرائب، إنقاذاً لهذه الصناعة الضخمة من الانهيار، وضياع المليارات التى اقترضوها أساساً من البنوك، ضمن مبادرة البنك المركزى لإقراض المشروعات الصغيرة والمتوسطة بفائدة تدور حول 5٪ فقط!
والصورة الآن تكتمل أمامنا بكل أبعادها الظالمة: مجموعات منظمة من الواصلين هم الذين استفادوا من قروض مبادرة البنك المركزى لدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة التى كانت مخصصة للشباب، وبعض هؤلاء أقاموا مصانع كبيرة لزيتون المائدة وزيت الزيتون، وعندما عصفت التغيرات المناخية بهذا المحصول، سارعوا إلى القفز من السفينة التماساً لحلول تنقذهم فقط، وتضع نهاية مأساوية لهذا المحصول فائق الجودة الذى حققت فيه مصر ميزات نسبية لا يوجد لها نظير فى أى مكان آخر حول العالم.
والذى سيحدث مع محصول الزيتون هو ذاته الذى حدث مع محاصيل أخرى كثيرة، وعلى رأسها القمح والذرة، وهو ذاته الذى حدث مع إنتاج مصر من الألبان واللحوم والدواجن، فمع كل أزمة يتعرض لها أى منتج غذائى وطنى، يسارع الكبار إلى الاستيراد بحجة الحفاظ على أسواقهم وعلى موظفيهم، وحتى يتمكنوا من سداد قروض البنوك.. وبعد انتهاء الأزمة يستخدم الكبار «رخصة الاستيراد» لتدمير المحاصيل والمنتجات الوطنية، وسرقة شقاء المزارعين والمنتجين بأبخس الأسعار.
إن الحل الذى يقترحه هؤلاء باستيراد الزيتون الخام لمدة عام واحد، مع إعفائهم من الجمارك والرسوم، ليس له غير معنى واحد جرّبناه وعشناه عشرات المرات، هو إرغام منتجى الزيتون على بيع إنتاجهم الضعيف بأبخس الأثمان.. ثم بيع إنتاجهم الغزير بتراب الفلوس، حتى يظل الزارع جائعاً، ويظل السمسار والتاجر والمصدّر هم الأباطرة الدائمين.
لقد عشنا سنوات طويلة نراقب نجاح مراكز بحوث المحاصيل فى زيادة الإنتاجية وتحسين مواصفات المنتجات الوطنية، وفى الوقت الذى يزرع فيه الفلاح المصرى الذرة ثم لا يجد من يشتريه، تتكدس الموانئ بملايين الأطنان من الذرة المستورد شديد الرداءة، ومنذ أكثر من ربع قرن ونحن نتابع استخدام المزارعين للقمح المصرى علفاً للمواشى، فى الوقت الذى نخصص فيه مليارات الدولارات سنوياً لاستيراد أقماح رديئة.
والحل الذى يقترحه هؤلاء المقترضون الكبار - الذين يعملون بمدخرات المصريين الغلابة - فى مجال الزيتون، هو تكرار آثم للأخطاء ذاتها التى تسببت فى مزيد من إفقار المنتجين، ومزيد من تكديس الثروات فى أيدى أقلية طفيلية لا تفكر إلا فى مصالحها الضيقة.. ولا تفعل غير القفز من سفينة المصلحة الوطنية كلما تعرضت لمأزق طارئ.
والحل الذى لا يوجد غيره لإنقاذ الجميع، أصبح معلوماً بالضرورة، وهو توجيه موازنة ضخمة لمراكز البحوث الزراعية، تساعدنا جميعاً فى التوصل إلى حلول علمية لمواجهة صدمات المناخ وتأثيرها المدمر على المحاصيل، وتحصيل هذه الموازنة من الضرائب المتصاعدة على المصدّرين الذين حققوا فوائض فاحشة من استثمار الكوارث البيئية، وراكموا أرباحاً غير مسبوقة، ورغم ذلك ما زالوا يطالبون بالدعم ويستولون عليه، ولم نشهد واحداً منهم يطالب بتعويض المزارعين الذين سقطت أزمة المناخ فوق رؤوسهم ودمرت معظمهم وكادت تصيبهم بالعجز الكامل عن مواصلة الإنتاج.