حكايات من دفتر صلاح عيسى
يمثل صلاح عيسى بالنسبة لجيلى نموذجاً للكاتب الذى حفر بموهبته الجامحة طريقه الخاص المتفرّد، سواء فى أسلوب الكتابة أو طريقة القراءة التاريخية، لذلك سعدت بصدور كتاب عنه كتبه اثنان من تلاميذه النُجباء النابهين، الصحفى محمد الشماع والصحفيّة هاجر صلاح، واللذان كتباه بحب وموضوعية أيضاً، كتاب «حكايات من دفتر صلاح عيسى» الصادر عن دار «شمس» بتقديم من الكاتب الكبير د. عبدالمنعم سعيد، الكتاب مسّ مناطق كثيرة لم يكن محبو وعشاق صلاح عيسى يعرفون عنها الكثير، عرفنا صلاح عيسى مقاتلاً شرساً وصحفياً متمرّداً، يخرج من سجن ليدخل زنزانة، وبيته مجرد استراحة بين محاكمتين! لكننا لم نقترب من صلاح عيسى الإنسان الرومانسى، متذوق الموسيقى وعاشق الشعر، الذى يُخفى وراء صوته المحشرج أوتار ربابة، وخلف نظارته السميكة وبصره الكليل بصيرة تنفذ إلى أعماق النفس والروح، الكتاب به كواليس قصة العشق ما بين «صلاح وأمينة النقاش»، وكيف كان زواجهما معركة أخرى فى سلسلة معارك «صلاح»، والذى كان لا يتوقع أن يكون الشقيق «رجاء» واحداً من رجال المقاومة لهذا الارتباط، ولكن سرعان ما انتصر الحب وتغلب على كل العقبات.
تسللنا مع صفحات الكتاب إلى أسلوب كتابة هذا الفرس الجامح والحكيم الجوال الذى يشعلك روحاً وعقلاً بمداد غمس فى الشرايين وكلمات نحتت من الألم والدم وسخرية المصريين الممتزجة بملح الدمع الساخن، اقتربنا من بيته ومكتبته ومكتبه فى جريدة «القاهرة»، عشنا تجربة «الأهالى» تحت إشرافه وقت أن كانت الأكثر توزيعاً فى مصر، والأكثر مصادرة أيضاً، كيف صنع صلاح عيسى توليفة النجاح فى تلك الجريدة الحزبية ذات الإمكانيات الضعيفة والتمويل المتواضع، ثم انتقلنا إلى تجربة جريدة القاهرة التابعة لوزارة الثقافة، والتى بسببها بدأت الألسنة تكوى «صلاح»، وجلسات النميمة على مقاهى المثقفين تجلده، بل وتتهمة بالخيانة والعمالة للنظام، وبأنه باع القضية إلى آخر تلك الأسطوانة المشروخة التى يذبح بها أرباع المواهب قامات مثل صلاح عيسى وأيضاً صلاح عبدالصبور، الذى أنصفه «عيسى» فى شهادة مهمة وقال عنه إنه لم يكن يستحق كل ما حدث، رغم أن صلاح عيسى نفسه شارك فى مظاهرات معرض الكتاب، ولكن الكتاب فى فصل من أهم فصوله شرح لنا تلك المرونة الفكرية التى جعلت صلاح عيسى يعترف بأنه يغير أفكاره، ليس عن نفاق ولكن عن اتضاح رؤية ومسافة تاريخ مناسبة تسمح بالمقارنة والتقييم، ولذلك لم يكن موقفه من السادات مثل موقف زملائه من اليسار وكذلك «مبارك»، فقد اتسع عنده الكادر وزادت مساحة التسامح، وصار لا يشيطن الناس بل يضعهم فى سياقهم التاريخى.
وبمناسبة التاريخ فقد حفر صلاح عيسى طريقاً باسمه فى التاريخ الاجتماعى، ليس له شبيه أو مثيل، فهو قادر على أن يغرق فى تفصيلة اجتماعية ويمنحنا لها قراءة ذات نكهة صلاحية عيساوية خاصة، لقطاته التاريخية تتنفس دراما، تفاصيل بسيطة تفوت على الكثيرين تصبح مع «صلاح» بئر نفط فياضة. «ريا وسكينة» عرفنا مع «صلاح» أنهما لم تقتلا أى سيدة، وإنما المهمة كانت مجرد استدراج، قصة البرنسيسة فتحية والأفندى رياض، وكيف كان الحب ملتهباً وعاصفاً ليعبر الحاجز الدينى لتنتهى القصة بمذبحة، مذكرات الفتوة، دستور ٥٤ الذى ألقى فى القمامة، حكايات المماليك ورجال مرج دابق، أما الثورة العرابية فهو أفضل من حللها وقرأ ما بين سطورها وحولها إلى ملحمة تراجيدية.. صلاح عيسى لن يموت وحكايات دفتره سنظل نتعلم منها كيف تتسامح مع أناس أنت قد بنيتهم، ولكنهم نهشوا فيك بعد الصعود، وسنظل نردد أجمل عباراته «إزيك يا جميل».