«الإدمان».. وراء معظم الجرائم الأسرية

ليس مَن رأى كمن سمع، وقد شاءت الأقدار أن أكون حاضراً بالقرب من جريمتين وقعتا أثناء قضاء إجازة عيد الأضحى الماضى فى القرية. وكانت إحدى الجريمتين على درجة شديدة البشاعة، جعلتنى أتردد كثيراً فى الكتابة عنها، لأنها فاقت كل قدرتى على الاحتمال، وفاقت أسوأ تصوراتى عما يمكن أن يفعله «المدمن» فى أقرب الناس إليه.

الجريمة الأولى وقعت بعد الساعة الثانية صباحاً، كنا ساهرين أمام البيت، عندما اندلع صراخ هيستيرى من أحد البيوت القريبة، وانتفضنا جميعاً لمعرفة مصدر الصراخ وأسبابه، وبعد لحظات عرفنا ما حدث: شاب فى الثالثة والعشرين من عمره سقط فى قبضة الإدمان منذ 3 أعوام تقريباً، ومر بكل المآسى التى يمر بها المدمنون، وعانى أهله -وهم على فيض الكريم- من كل صنوف العذاب معه، وبذلوا المستحيل لعلاجه، ولكن كل أماكن العلاج التى ذهبوا به إليها أطلقت سراحه، لأن قانوناً شديد الغباء يمنح المدمن الحق فى إنهاء علاجه والخروج من المصحة فى أى وقت، وفى هذه الليلة السوداء عاد الشاب إلى بيته بعد الواحدة ليلاً، وتشاجر مع والديه لأنهما رفضا منحه مزيداً من الأموال، وخلال نقاش عاصف معه قالت له والدته إنه تسبب فى تعطيل تجهيز أخته المخطوبة التى اقترب زفافها، وطلبت منه أن يتركهم فى حالهم ويتوقف عن إنفاق المال وسرقة كل ما تقع عليه يده، حتى يتمكنوا من تجهيز شقيقته للزواج.

وكان أن تظاهر هذا المجرم بأنه اقتنع بكلام والدته.. وانصرف إلى حال سبيله، وقضى نحو نصف ساعة خارج البيت ثم عاد فجأة واتجه إلى المطبخ.

رأته أمه يصب الزيت فى المقلاة، فتصورت أنه يجهز عشاء لنفسه، فدعت له بالهداية واتجهت إلى غرفتها لتنام، وبعد دقائق ارتج البيت كله من صراخ هيستيرى، وخلال ثوانٍ تكشفت الجريمة البشعة: لقد قرر هذا الشاب المجرم الرهيب أن يدمر شقيقته، وأن يؤجل زواجها، فقام بصب الزيت المغلى على وجهها وهى نائمة!.

انشغلت البيوت كلها بمحاولة إسعاف الفتاة، وتم نقلها بأقصى سرعة إلى أقرب مستشفى مركزى، ويا ويل من يمرض أو يتعرض لحادث فى إجازات الأعياد فى مصر، حيث لا أطباء ولا تمريض ولا أى إسعافات، وقد بذلتُ المستحيل لأجد لها مكاناً فى مستشفيات جامعة المنصورة بعد أن أدركنا أن حالة المستشفى المركزى التابع لوزارة الصحة لا تصلح إطلاقاً للتعامل مع الحروق والتشوهات التى أصابت الفتاة، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، فنحن فى إجازة عيد، وكبار الأطباء لا أثر لهم فى أى مستشفيات عامة أو جامعية أو حتى خاصة!

فى الليلة التالية كنا مشغولين بمأساة الفتاة التى شوه شقيقها المدمن وجهها حتى لا يحرمه تجهيزها من نفقات إدمانه، وإذا بنا ننتفض على صراخ جديد ونقتحم البيت الذى يصدر عنه الصراخ، لنجد شاباً صغيراً يحمل سكيناً ضخماً مشتبكاً مع والده فى معركة ضارية، وعلى مقربة منهما كانت شقيقته ملقاة على الأرض وسط بركة دم، وبعد أن تمكنا من السيطرة عليه وانتزاع السكين من يده، لاحظت أن جسمه موشوم برسوم غريبة، وبحروف عديدة وحولها قلوب ونجوم وسيوف، كما لاحظت أنه شبه غائب عما بدر منه أو يدور حوله، وبسؤال الحاضرين عرفتُ أنه مدمن، وأنه أيضاً ذهب عدة مرات إلى مصحات مختلفة أطلقت سراحه قبل اكتمال علاجه.

ومع الحادثين، استمعت لعشرات القصص المماثلة، وأذهلنى أن الإدمان وتعاطِى المخدرات بكل أنواعها ضرب عشرات البيوت فى القرى، وأن أسراً عديدة فقدت أبسط مشاعر الأمان والاستقرار بسبب سقوط أحد أبنائها فى براثن الإدمان. وكان لا بد أن أسأل عن المصدر الذى انفجرت منه كل كل هذه المآسى فى القرية، وأدهشنى أن الجميع يعرف المصدر جيداً، فهو شاب ينتمى إلى عائلة كبيرة، تحول من مدمن إلى تاجر ليدبر نفقات إدمانه، وظل لسنوات يمارس تجارته فى أمان تام، وعندما فاحت رائحته وتكررت المآسى والجرائم التى يرتكبها ضحاياه، تحركت الشرطة وألقت القبض عليه، ولكن بعد فوات الأوان، فقد ترك هذا الشاب خلفه دماراً رهيباً فى عشرات البيوت، وأورث حرفته الشيطانية لعدد كبير من المتعاطين الذين تحولوا إلى تجار تجزئة، وقد نجح هؤلاء فى ضم متعاطين جدد، أصبحوا خلال شهور قليلة قنابل موقوتة تنذر بمزيد من الجرائم والمآسى التى اعتادتها القرى خلال السنوات الماضية.

وكان من بين ما سمعته أهوال يندى لها الجبين وتنخلع لها القلوب، وكلها تؤكد للمرة الألف أن الإدمان لا يقل خطورة عن الإرهاب، فالمدمن يتجرد تماماً من كل مشاعره الإنسانية، ويفقد وعيه وإدراكه لخطورة ما يفعله، وهو على استعداد دائم لأن يسرق ويقتل ويبيع شرفه وشرف أخته أو ابنته أو زوجته لمجرد أن يحصل على الجرعة فى موعدها. والمدمن يفقد كل الدوافع الإنسانية العادية للعمل، ولا يشعر بأى إثم أو تأنيب ضمير وهو يستولى على شقاء أقرب الناس إليه لينفقه فى الحصول على المخدر، وعندما تنسد فى وجهه كل أبواب تدبير المال اللازم لمواصلة التعاطى يبيع كل ما يقع تحت يده بأبخس الأثمان، فهناك من خدعوا ذويهم ونقلوا بيوتاً وأراضى وآلات زراعية بأسمائهم، ثم باعوها بتراب الفلوس لتدبير نفقات التعاطى لعدة شهور، وهناك من يهددون ذويهم بالقتل إذا لم يحصلوا فوراً على نصيبهم من الميراث للتصرف فيه كما يحلو لهم رغم أن الوالدين ما زالا على قيد الحياة.

إن انفجار الجرائم الأسرية خلال السنوات الماضية لا تفسير له غير «الإدمان».. فهو منبع الشر الأساسى فى معظم جرائم القتل الأسرية، ولكن لا أحد يريد أن يدق ناقوس الخطر فى مكانه الصحيح، ولا أحد يريد أن يشير صراحة إلى هذا الوباء المدمر الذى تفشَّى فى كل مكان، وأصبح من العلم العام لجميع المواطنين.

إننا فى الحقيقة أمام قضية أمن قومى فى منتهى الخطورة، بعد أن دمر الإدمان نسبة كبيرة من زهرة شباب الوطن، وبعد أن رصدت كل الدراسات المسحية إقبال فتيات ونساء كثيرات على التعاطى، تحولن مع الوقت إلى ساقطات يبعن أجسادهن لتدبير نفقات الإدمان، وقد عرفتُ من أحد المختصين فى علاج الإدمان أن فتيات ونساء كثيرات ممن سقطن فى براثن الإدمان تحولن إلى بؤرة شديدة الاتساع لنشر أمراض خطيرة من بينها الإيدز.

وقبل نحو أربعين يوماً صدَّق رئيس الجمهورية على القانون رقم 73 لسنة 2021 الخاص بشغل الوظائف أو الاستمرار فيها، وينص على عدم توظيف كل من يثبت تعاطيه للمخدرات، وعلى فصل الموظف المتعاطى، وإذا كان تطبيق هذا القانون سيلعب دوراً فى منع الفساد، بسبب إصرار الموظف المدمن على تعاطى الرشوة، فإنه وحده لن يكون كافياً لمواجهة هذه الظاهرة المخيفة التى تحتاج إلى تعديل تشريعى يلغى المادة التى تنص على عدم جواز إرغام المدمن على تلقِّى العلاج، لأن هذه المادة لم يعد لها غير معنى واحد، هو حرية المدمن فى تخريب حياتنا وتدمير نفسه وأسرته ومجتمعه!.

وأخيراً، يبدو لى أن أحداً لن يتحرك، إلا إذا بادر الرئيس نفسه بالإعلان عن مشروع قومى ضخم للقضاء على الإدمان، وإلزام كل المحافظات والمراكز بتخصيص أماكن تكفى لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المدمنين، وإلزام وزارة الداخلية بالنهوض بدورها فى تجفيف منابع هذه التجارة الكارثية.