محاكمات افتراضية للأطباء!

مرة أخرى يبرز على السطح ذلك الهجوم الشرس على الأطباء على مواقع التواصل الاجتماعى من كل فئات المجتمع.. والسبب هذه المرة هو اتهامات الأخطاء المهنية التى يدعى البعض أنها طالت فنانة شهيرة.

الجميع أصبح يطالب بمحاسبة الطبيب المخطئ.. دون أن يعرف أحد حقيقة الحالة الصحية للمريضة.. بل ودون أن يدرك أى من المشاركين تعريف الخطأ الطبى من الأساس..!

أزمة كبيرة تلك التى يعانى منها الأطباء بشكل شبه منتظم خلال العقود الأخيرة.. أزمة تتمثل فى الخلط الذى يحدث لدى العامة بين الخطأ المهنى والمضاعفات واردة الحدوث بعد التدخلات الطبية المختلفة.

أزمة تجعلهم يمارسون عملهم تحت ضغط شديد.. وتجعلهم معرضين لكل أنواع الانتهاكات دون ضابط واحد يحفظ لهم حقهم فى الرد.. ويكفل لهم سمعتهم وشرفهم إن فكر أحدهم فى المساس بهم تحت غطاء حرية زائفة منحتها وسائل التواصل الاجتماعى المختلفة للجميع دون تمييز..!

فى البداية ينبغى التأكيد أنه لا يوجد طبيب على وجه الأرض لا يتمنى الشفاء لمريضه! تلك هى الحقيقة التى ينبغى أن تظل واضحة للجميع.

لم يخلق بعد ذلك الطبيب الذى لا يحلم بأن يمنح مرضاه الشفاء بأن يضع يده عليهم كالمسيح.. لذا فالضرر الطبى لا يمكن أن يكون متعمداً بأى حال!

ربما ينتج الضرر من إهمال الطبيب أو عدم كفاءته فى بعض الأحيان.. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.. والمحاسبة فى هذه الحالة ينبغى أن تكون رادعة لمنع تكرار هذا الإهمال.. لكنه قد ينتج أيضاً من مضاعفات واردة الحدوث ومنصوص عليها فى المراجع العلمية.. أو من إهمال المريض نفسه فى عدم اتباع النصح الطبى اللازم لحالته.. وهو ما لا يمكن قياسه أو تحديده إلا بلجنة فنية متخصصة.. وليس برأى المذيع اللامع أو الصحفى المخضرم!

المشكلة أن الجميع بات من حقه أن يدلى بدلوه فى الأمر.. بمجرد أن تبدأ موجة الهجوم تجد كل البرامج الحوارية على شاشات التلفاز.. كل المواقع الإخبارية المهتمة بالشأن العام.. صفحات الفن والاقتصاد والرياضة على مواقع التواصل.. حتى الحسابات الشخصية للفنانين والإعلاميين.. الكل بلا استثناء يقرر أن يبدى رأيه فى شأن طبى بحت.. الكل يتحول إلى خبير مخضرم فى الطب والجراحة.. ويقر ويؤكد أن طبيباً قد اقترف خطأ كبيراً وينبغى محاسبته بكل الطرق..!

فى كل مكان على ظهر هذا الكوكب لا تجرؤ مؤسسة إعلامية واحدة أو حتى حساب شخصى على مواقع التواصل الاجتماعى أن يبدى رأياً فى حالة مرضية بأحد المستشفيات دون أن يخرج بيان واضح من المستشفى نفسها.. بل ودون أن يتم ذلك بموافقة المريض نفسه أو ذويه إن كانت حالته الصحية لا تسمح بالموافقة أو الرفض.. الأمر يخرج من نطاق السبق الصحفى ليدخل فى خانة التشهير.. وهى تهمة ليست بالهينة فى دول تحفظ سمعة مؤسساتها الطبية.. وتحترم خصوصية المواطن إلى أقصى حد يمكن تخيله!

هل فكر أحد فى نفسية ذلك الطبيب الذى يتعرض لتوجيه اتهامات الخطأ والفشل له بتلك الصورة دون دليل سوى آراء بعض الصحفيين أو مرتادى مواقع التواصل؟

هل تخيل أحد حالته والكيفية التى سيستمر بها فى أداء عمله؟

هل سيحاول أى طبيب تعرض لتلك التجربة إنقاذ حياة مريض مرة أخرى؟.. أم سيفكر فى تأمين موقفه أولاً وانتقاء نوعية معينة من الحالات السلسة على حساب حياة المرضى؟! الإجابة أوضح من أن أذكرها.. ليتحول الأمر إلى دائرة مفرغة لا تنتهى.. وفقدان للثقة يتعاظم كل يوم بين طرفى المعادلة الأهم فى رأيى.. تلك المعادلة التى تحفظ للناس حياتهم!

أعتقد أن الوضع قد بات فى حاجة لتشريع جديد يتيح محاسبة كل من قرر أن يدلى بدلوه سعياً للسبق الصحفى.. ويعاقب كل من يخرج برأى فى شأن طبى دون بيان واضح من المؤسسة الطبية التى تقدم العلاج أو من جهة رقابية أو قضائية تحقق فى الأمر بشكل رسمى.

ربما كان هذا أول الطريق.. حتى يستقيم الأمر.. أو هكذا أعتقد!