عالم بلا إنسانية!

عادل السيوى

عادل السيوى

كاتب صحفي

ينتابنى شعور بالحنق والحزن حين أتصفّح وسائل التواصل الاجتماعى، وأجدنى ألتمس انفلاتاً أخلاقياً مريعاً، حيث تتراءى أمامى صور لمن اغتيل بدم بارد مقابل شهامته، وآخر مقابل دفاعه عن لقمة عيشه، وثالث يدفع حياته مقابل تفوقه، وغير ذلك، وأتساءل: لم وصل الناس إلى هذه المرحلة من انعدام الأخلاق والتساهل فى ارتكاب الجرائم من إزهاق أرواح أبرياء، إلى اعتداء على الممتلكات والأعراض وترويع البشر دون أى شعور بذرة ندم أو حزن على ما اقترفته أيديهم؟ لماذا تلاشت المروءة والشهامة والطيبة والكرم بين الناس، وإذا كنا قد وصلنا إلى هذه المرحلة المتدنية من انعدام القيم مع عدم وجود رادع، حيث إن هناك من يمحّص ويفحص لإخراج هؤلاء من جرائمهم الشنيعة كما يقال: «مثل الشعرة من العجين»، فماذا سيحدث فى سنوات مقبلة يلازمها مزيد من الانهيار الأخلاقى؟ وإلى أين ستصل بنا الحال؟ ولماذا لا يضع كل فرد هذه الآية نصب عينيه «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (البقرة 281)، وقد صدق رسول الله حين قال: «تحرم النار على كل قريب هين لين سهل».

وحتى وقت قريب كنا نحفظ أرقام تليفونات الأصدقاء، لأنها لم تكن تتجاوز ستة أرقام، وكان عدد الأصدقاء قليلاً وبدأت رحلة التراجع عاماً بعد عام هناك من سافر ومن رحل، وأصبح من الصعب الآن أن تسأل عن صديقك، ربما تكتفى برسالة قصيرة على المحمول، وحتى العلاقات الأسرية لم تعد كما كانت، كان الابن يسأل عن أمه كل يوم ويتابع أخبار أبيه وإخوته، ولكن هذه العلاقات انسحبت من حياة الناس أمام المشاغل والاهتمامات الكثيرة. إن أصعب الأشياء التى تنشرها الصحف الآن ومواقع التواصل الاجتماعى أن يموت الأب ويكتشف الجيران بعد أيام أنه مات وحيداً، وفى أحيان كثيرة تموت الأم فى دار للمسنين ولا يسأل عنها أحد.

إن أخطر ما يعانيه إنسان هذا العصر أن الأشياء قريبة جداً من خلال وسائل الاتصال، هناك المواصلات الطائرة والقطار. وهناك التليفزيون والإنترنت الذى قرب المسافات والأماكن بين الناس، ولكنه كشف الأسرار وجعل القلوب بعيدة، ودفء المشاعر الإنسانى أبعد من ذلك كله.

لقد حول الإنترنت حياتنا من العالم الواقعى إلى العالم الافتراضى.. وها هو جيل الألفية يحاول أن يكون الافتراض واقعاً.. فمن الملاحظات اللافتة على شبكات التواصل الاجتماعى أن كثيراً من المستخدمين ينشرون أمورهم الشخصية بكل تفاصيلها، وقد وُجد أن هذا السلوك يميز بشكل خاص من يطلق عليهم (شباب عصر الإنترنت) وهم من مواليد الفترة بين عامى 1981 و1996 ويُسمى هؤلاء الشباب بـ«جيل الألفية».. لقد سعى هذا الجيل إلى تحويل مواقع التواصل الاجتماعى من عالم افتراضى إلى عالم واقعى، لا سيما أن هناك 4 مليارات شخص يستخدمون تلك المواقع على مستوى العالم من بين 7 مليارات شخص هم سكان العالم.

وفى الآونة الأخيرة تراجع دور الأهل فى تربية الأبناء والأحفاد والارتقاء بفكرهم وثقافتهم، بعد أن قل تماسك الأسر التى لا يكاد الآباء، بل والأمهات يلتقطون أنفاسهم جرياً وراء لقمة عيش صعبة، بل قد يضطر كثير من الآباء للسفر، تاركين أسرهم، فالأسرة تجلس مع بعضها، ولكن ليس هناك حوار يجمعها، فالأب يحسب آخر ما بقى عنده فى البنك أو البيت، والأم تتفق مع جارتها على جلسات النادى، والأبناء خارج البيت، ولا أحد يعلم متى يرجعون وسط هذه العلاقات الأسرية المشوهة.

تبحث عن بقايا الأصدقاء ولا تجد فى أجندة أيامك أحداً، لقد تراجعت الأسماء ما بين البعاد والرحيل والسفر وأعباء الحياة.. إن الخسارة الحقيقية الآن أن الأسرة لم تعد كما كانت، وأن الصداقات أصبحت شيئاً نادراً بين الناس، كثيراً ما تلتقى بأشخاص تعرفهم وتخونك الذاكرة فى أسمائهم، وربما سيجىء يوم تسأل إنساناً عن اسم أبيه وينظر فى «فيس بوك» لعله يتذكره.. إن انسحاب الإنسانيات من حياة الناس خسارة كبيرة لأن البدائل بلا قيمة، أن تخسر صديقاً ولا تعوضه، أن تخرج من بيت أبيك ولا يبقى لك شىء من ذكرياته، أن تصافح أمك ولا تجد كلمة وداع، كل شىء سيكون على الهواء، الحب والصداقة والأسرة والماضى البعيد، أما دفء المشاعر فقد اختفى، لأن الجميع يطارد الصور والأخبار والأكاذيب، ولا يفكر فى شىء يسمى الحقيقة.. الحقيقة الوحيدة التى بقيت للناس هذا الحنين إلى أمانينا وذكرياتنا، وقد نجد فيه ما يؤنس وحدتنا أحياناً..

أفاقنا الله من ذلك كله وأخلف علينا بمستقبل واعد وأعاد للبشر ما جُبلوا عليه من قيم ومبادئ وتعاليم سمحة.