سد النهضة.. هل فشل الملء الثاني؟
أعلن وزير الرى الإثيوبى قبل عدة أيام أن بلاده لم تتمكن من استكمال تعلية الجزء الأوسط من سد النهضة، فوصلت إلى مستوى 573 متراً فقط وبسعة تخزينية جديدة تبلغ حوالى أربعة مليارات متر مكعب، وذلك بدلاً من مستوى 595 متراً الذى كان مستهدفاً والذى كان يسمح بتخزين 13٫5 مليار متر مكعب، وهو ما كانت إثيوبيا تسعى إلى تحقيقه فى الملء الثانى.
وقد هلل بعض هواة التعليق والحديث إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى، بوعى أو بغير وعى، لهذه الأخبار، مقررين أن هذا الإعلان بمثابة تراجع من إثيوبيا عن مخططها السابق فيما يتعلق بالملء الثانى، وأنه استجابة لضغوط مصر والسودان، وأن الخطر المحدق الذى كنا نتحسب منه بات بعيداً ولو إلى حين. ولهؤلاء ومن على شاكلتهم أقول: كفانا سذاجة وحديثاً بغير علم فى قضية هى الأهم والأخطر فى تاريخ بلادنا. ففى الأمم العاقلة والرشيدة لا تُترك مثل هذه القضايا المصيرية لغير المتخصصين، ولا يتحدث فيها إلا العالمون ببواطن الأمور.
وأود فى هذا السياق أن أسجل الملاحظات التالية:
1- ما الذى يجعلنا نصدق ما أعلنه المسئول الإثيوبى فى شأن نجاح بلاده فى استكمال التعلية المنشودة من عدمه؟ ألم يكذب المسئولون الإثيوبيون مراراً وتكراراً، ألم يخلفوا عهودهم فى شأن السد مع مصر ثم مع مصر والسودان مرات ومرات. ولماذا لا نعتبر هذا الإعلان بمثابة مخدر لمصر والسودان، ثم تكتشف الدولتان بعد أسابيع قليلة أن الملء الثانى قد اكتمل وأن المعركة قد انتهت؟
2- يستوى لدينا أن تقوم إثيوبيا فى الملء الثانى بتخزين مليار متر مكعب من المياه فقط، وليس أربعة مليارات كما يزعم وزير ريها، أو أن تخزن الثلاثة عشر ملياراً ونصف المليار التى أعلنت من قبلُ عزمها تخزينها فى هذا الملء. فالقضية ليست فى مقدار التخزين، وإنما فى مبدأ التخزين دون اتفاق مُلزم مع مصر والسودان. فالتخزين دون اتفاق، وأياً كان مقداره، بالإضافة إلى سابقة الملء الأول وهو ما تم آنذاك بشكل مفاجئ ودون اتفاق، تخلق سوابق قانونية، وتشجع إثيوبيا، فى هذه الحالة وسواها، على السير فى هذا السبيل دون رادع. ومن ثم فإن الخطر محدق وحال، سواء اكتملت التعلية أم لم تكتمل، وسواء أتمت إثيوبيا الملء المستهدف كلياً أو جزئياً، ما دام أن هذا كله قد تم دون اتفاق ملزم.
3- إن القرارات المصيرية المرتبطة بحاضر الأوطان ومستقبلها، وبحياتها وبقائها، لا تحسمها أقوال مرسلة هنا وهناك، ولا تحسمها ترندات مواقع التواصل الاجتماعى، كما لا تحسمها الرغبة فى تحقيق شعبية مؤقتة. وإنما تحسمها الدراسة المتأنية العميقة للمعلومات، والتقدير الدقيق للمواقف الدولية والإقليمية والمحلية.
4- ليس لدىّ ذرة من شك فى أن أجهزة المعلومات المصرية -وظنى السودانية كذلك- المسئولة عن هذا الملف تعرف، على مدار الساعة، حقيقة ما يحدث هناك، وأنها تقدم لصانع القرار ما يسمح له بتقدير الموقف بإيجابياته وسلبياته واتخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب. حاصل القول إن ما يعنينا فى هذا المقام ليس ما يعلنه المسئولون الإثيوبيون، صدقاً كان أم كذباً، ولا ما يقوله هواة الكلام وعشاق الشهرة وترندات مواقع التواصل، وإنما ما تقوم به الأجهزة المسئولة من جهد نراه رأى العين، والتى لا تملك إلا أن تعمل بكل ما أوتيت من علم وخبرة وقوة، وبكل سبيل من السبل، سلماً كان أو حرباً، على تأمين شريان حياة مصر ومنبع وجودها وأساس بقائها.
رحم الله شوقى حين خاطب النيل قائلاً:
والماء تسكبه فيسبك عسجداً .. والأرض تغرقها فيحيا المغرق
يتقبل الوادى الحياة كريمة .. من راحتيك عميمة تتدفق
فيصير خصباً فى ثراه ونعمة .. ويعمه ماء الحياة الموسق
وإليك -بعد الله- يرجع تحته .. ما جف أو ما مات أو ما ينفق.