أبوالعز الحريرى
مات المناضل الجسور «أبوالعز الحريرى»، قاوم المرض اللعين ببسالة منقطعة النظير، مثلما قاوم كل أسباب القهر والانكسار التى أثقلت ظهور كثيرين فانحنوا وفرطوا، وبقى هو مرفوع الهامة والقامة حتى أغمض عينيه فى سلام.
زرته فى رمضان الفائت، فحدثنى عن الآتى كأنه سيعيش ألف عام. هكذا يفعل من يكرسون حياتهم للناس، لا سيما الفقراء، الذين ظلوا دوماً شغله الشاغل، يدافع عنهم ويربت على أكتافهم ويمسح الأرق والعوز من عيونهم على قدر استطاعته.
يومها كنت بصحبة القاضى العادل المحترم المستشار فكرى خروب، والباحث الاقتصادى الكبير الأستاذ عبدالخالق فاروق، وجلسنا معه فى شقته البسيطة بـ«محرم بك» ننصت إلى ما يقول. كنت أشعر أنه ينطق بالبصيرة والحدس، ذلك الذى يملكه المقبلون على الرحيل، ولا نراه نحن فى الغفلة والعجلة والغرق فى تفاصيل الحياة المتدافعة بلا هوادة.
كان المرض يتمدد على عجل فى كبده وهو لا يعلم، ورحمة بحاله أخفت عنه زوجته حقيقة ما قاله لها الأطباء، نظروا طويلاً فى الأشعات الدقيقة والتحاليل المعملية المأخوذة بعناية وقالوا لها:
- لم يتبق له سوى أسابيع.
لكنها كانت تقول:
- «أبوالعز» يجب أن يموت مرفوع الرأس، غير ذليل على أسرّة المستشفيات الباردة، يرحل فى بيته وبين أهله.
وحين هاتفت أطباء كباراً بشأن نقله إلى مستشفى فى الداخل أو الخارج، قالوا لى:
- لا علاج له.
وعرفت أن أطباء فى الخارج أيضاً توصلوا إلى النتيجة نفسها، هكذا قالت لى زوجته وهى تبكى:
- ما بينى وبينه رحلة عمر، تعاهدنا فى شبابنا الغض على حب مصر قبل أن نرتبط عاطفياً. فى مصر عرفته، وعلى حبها استمر حبنا، ولا أعرف كيف سأمضى فى الحياة بدونه.
لكنها تصرفت أمامه طيلة الوقت وكأنه مصاب بنزلة برد أو بوجع الأسنان، فإذا خلت إلى نفسها بكت بحرقة، ورثته فى هدوء. تنظر فى صفحة وجهه الذى يذبل، وتسأله عن الألم الضارى الذى يطلق فى جسده حمماً رهيبة، وتجرى إلى المسكنات القوية، حتى يقضى أطول ساعات ممكنة مع محبيه وهو قادر على الجلوس والكلام والحلم.
كانت أحياناً تأخذه من يده إلى المقهى الذى يتمدد تحت بناية مجاورة لبيتهما، وجداره يلتصق بحائط المكتبة التى أنشأها «الحريرى» ليتقوت منها وهو يمضى فى معاركه السياسية غير هيّاب ولا محاذر. وما إن يجلس على مقعد جانبى بالمقهى حتى يتحلق حوله الناس، ويسألونه:
- هل ستترشح للبرلمان المقبل؟
فيبتسم ويرد:
- ليس المهم أنا، بل الأهم أن نجد مرشحين أكفاء مخلصين من بينكم.
وتتحول الجلسة إلى ندوة يصول فيها أبوالعز الحريرى ويجول، يبذر الأمل بيمناه، ويوزع بيسراه خبرته العميقة كبرلمانى قدير وسياسى راسخ الخطى على من حوله. يثرثرون ويحتدون ويهدأون ولا يكفون عن طرح الأسئلة، وهو لا يبخل بالإجابات، بذهن رائق وصوت يحاول أن يكون طليقاً مثلما عهدوه، دون أن يعرف أى منهم أن الرجل الجالس أمامهم يقطع الثوانى الأخيرة نحو النهاية المحتومة.
رحم الله «الحريرى» وساعد من بقوا يسعون فى الأرض بعده على أن يكملوا الطريق الطويل.