عن علاج العَرض.. وعلاج المرض
لا شك أن أهم ما يهدد ويعيق مسيرة التنمية بمصر هى الأفكار.. فالإرهاب فكر، والتعصب ورفض الآخر فكر، والفساد هو أيضاً فكر، والتنمية الحقيقية لن تتحقق إلا بدحر تلك الأفكار المريضة، لا حَمَلَة ألويتها من الأفراد والجماعات وحسب، ومهما بلغت نجاحاتنا فى السيطرة الأمنية ومنع التفجيرات وحل الجماعات الإرهابية وملاحقتها أمنياً، فإنها فى النهاية نجاحات فى السيطرة المؤقتة على الأعراض الظاهرة للمرض الذى سوف يستمر فى نهش جسد الوطن المنهك، وينخر فى عظامه، طالما تناسينا أو تعامينا عن مواجهة حقيقة أن التعامل الأمنى مع الإرهاب هو فقط وسيلتنا لمواجهة أعراض مرض التطرف، ولن يكون أبداً الوسيلة لاجتثاث الفكر الظلامى من المجتمع، ولا بد أن نقر بأن دور الأمن هو حماية المجتمع من الأخطار الوشيكة المحدقة، ولكن التخلص بشكل نهائى وبات من أخطار الفكر الظلامى لن يأتى إلا عبر سلاح وحيد، وهو سلاح الثقافة والفنون، فالثقافة والفنون هما أمضى سلاح فى مجابهة بذور التطرف، وهما المفتاح للتفكير السليم وقبول الآخر.
لذلك هالنى ما قرأته عن مقدرات وزارة المالية فى مصر -ذلك البلد الذى لن يستقيم التفكير فى أى مستقبل له، دون اعتبار الاستثمار فى الثقافة أولوية قصوى، واعتبار معركة التنوير ضد الظلاميين هى «أم المعارك»- هالنى أن أعرف أن الموازنة للخدمات الثقافية لعام (2013 -2014) لا تتعدى 0.23٪ من الموازنة العامة للدولة، وأن نصيب الفرد من الثقافة لا يتعدى جنيهين وثمانين قرشاً سنوياً! أضف إلى هذا عزيزى القارئ انخفاض عدد المسارح من ٤٨ مسرحاً إلى ٤٠ خلال أربع سنوات فقط (من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١١) إلى جانب العدد الكبير من دور العرض السينمائية التى تحولت مؤخراً إلى مولات ومتاجر وخلافه.
وإذا أخذنا فى الاعتبار أن ما يتم إنفاقه فعلياً على النشاط الثقافى والفنى لا يتعدى ١٧٪ من موازنة وزارة الثقافة (بعد استبعاد نفقات الصيانة للمبانى والمنشآت ومرتبات العاملين وخلافه) فإننى أحسب أن هذه الأرقام هى الإجابة الشافية لتساؤل شاعرنا الكبير صلاح عبدالصبور: «كيف ترعرع فى وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد».
إن الانسحاب شبه الكامل للدولة من الحقل الثقافى وترك مجتمعنا نهباً للأفكار المريضة المقبلة من بلاد بترولية عدة مع عود جحافل الـ«مُعارين» إلى مصر مشبعين بأفكار الوهابية وابن تيمية شديدة التطرف، وانتقالهم من طبقات معوزة مادياً غير قادرة على التأثير إلى طبقات أعلى ذات تأثير قوى فى المجتمع، أدى إلى بيئة شديدة الخصوبة لأفكار التطرف والإرهاب.
لا بد من أن تعتبر القيادة السياسية لمصر إذا أرادت حقاً أن تقضى على مرض التطرف، لا على تسكين أعراضه فحسب أن توجه كل طاقات الوطن إلى إعادة التنمية الثقافية وأن تضعها على قمة الأولويات، وأن تدرك أننا فى سباق مع الوقت، لأن فى كل يوم نتجاهل فيه أساس كل المشاكل، وهو الجهل والتطرف، سوف ندفع ثمنه غالياً من تفجيرات وضحايا أبرياء، دعونا نبدأ الآن وفوراً.