حرية فلسطين هي الأصل

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

علم إدارة الأزمات يفرق بين نمطيْن رئيسيين؛ أحدهما أزمة تندلع بصورة مفاجئة أو شبه مفاجئة، وتنتهى غالباً فى زمن قصير بتوافق بين أطرافها بتدخل طرف ثالث، أو لشعور أطراف الأزمة أنها عبثية وبلا عائد يذكر. والثانى أزمة ممتدة، تتكرر فيها المواجهات والأزمات الفرعية، تعرف الهدوء أحياناً، وتنزلق إلى مواجهات عنيفة بدرجات مختلفة بين وقت وآخر، وتعرف أيضاً تدخلات خارجية وإخفاقات مدوية، ولكن يظل جذر الأزمة موجوداً، وتظل معه احتمالات المواجهة والعنف والتطرف وإراقة المزيد من الدماء وإزهاق الأرواح، دون أن يكون هناك ما يوصف بلاغياً بضوء ولو باهت فى نهاية النفق، يوحى بوجود الأمل بحل يعالج جذر الأزمة، وينهى الصراع.

القضية الفلسطينية نموذج بارز للأزمة الممتدة بكل تعرجاتها وإخفاقاتها. هى ببساطة أزمة لم يستطع أحد بعد أن يقنع أطرافها بأن يقبلوا صيغة وسط، رغم وجود العديد من تلك الصيغ التى طُرحت عربياً وفلسطينياً، ورغم بعض الجهود التى بُذلت برعاية أمريكية فى مراحل سابقة زمن الرئيسيْن كارتر وكلينتون، ولكنها لم تنجح فى زحزحة الموقف الإسرائيلى المتصلب بالاستيلاء على كامل فلسطين التاريخية، وإخلائها من أصحابها الأصليين. ورغم إدراك الكثير من مؤسسات الحكم فى الولايات المتحدة ودول أوروبية، فضلاً عن روسيا والصين، بأن ما تقوم به إسرائيل من عمليات تهويد واستيطان واقتلاع الوجود الفلسطينى هو ضد المنطق وضد التاريخ، وضد أبسط المبادئ التى يتشدقون بها حول حقوق الإنسان والحريات التى يطالبون بها الغير، لكن اعتبارات ما يرونه واقعية وانتهازية سياسية نابعة من تفاعلات بلدانهم المحلية، لا سيما العلاقة مع الحركة الصهيونية والنفوذ اليهودى، تجعلهم دائماً ينظرون بعين إسرائيلية متوحشة وهمجية، يأتون على الضحية ويتجاهلون سبب الصراع ذاته وجذره الذى لا يُعالج بالمسكنات أو تهدئة الخواطر اللحظية، بل بمشرط جراح قادر وكفء، وهو ما لا يتوافر الآن فى النظام الدولى الراهن، حيث يفتقد قيادة قوية تؤمن بالقيم وبحقوق الشعوب فى الحرية والأمن والسلام، وطالما استمرت تلك السيولة الدولية الراهنة، سوف يستمر النضال الفلسطينى من أجل هويته وحقوقه التى لا تنازل عنها.

ما يجرى فى فلسطين المحتلة بكل مسمياتها، الضفة الغربية وما وراء الخط الأخضر والبلدات العربية داخل الكيان وقطاع غزة، لا ينفصل عن ذلك الفشل الكبير الذى عجز عن التعامل مع الأزمة الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطنى مشروع، وشعب مقهور سُلبت أرضه، وليس لديه أى مبرر أو نية بأن يقبل التنازل عنها للمحتل الاستيطانى العنصرى، ومن حقه أن يدافع عن وجوده وهويته بكل ما يستطيع من إمكانات بدائية، مقارنة بما لدى الطرف الآخر من قوة عسكرية باطشة ومساندة دولية بائسة تفيض نفاقاً وخزياً وعاراً، لكنه شعب يجد الدعم والمساندة من القوى العربية والإسلامية الرشيدة والتى تتمتع بحس إنسانى وتاريخى ولا تقبل الظلم، وترفع صوتها عالياً وفى كل المحافل برفض الاحتلال والعدوان الإسرائيلى الهمجى وتصر على التعامل مع الصراع من جذوره، كما أكد ذلك الرئيس السيسى مرة تلو أخرى، إيماناً بأن معالجة هوامش الأزمة بمسكنات ليست فى الواقع سوى قنابل موقوتة سوف تنفجر بعد حين.

يرافق تلك القوى العربية الرشيدة قوى حية رغم محدودية أعدادها فى بعض بلدان الغرب بما فى ذلك الولايات المتحدة، والتى خرجت فى مظاهرات فى عدد كبير من المدن الكبرى، من نيوزيلندا إلى كندا وأمريكا، تؤيد حق الفلسطينيين فى الحياة والحرية والاستقلال، وتدين الهمجية الإسرائيلية التى لم تتورع عن قصف المبانى السكنية وقتل الأبرياء عمداً وتطبيق السياسات العنصرية حتى على من تصفهم بأنهم عرب الكيان. وهو مشهد جديد يجب وضعه فى الاعتبار، وسيكون له تأثيره على انتهازية الساسة ومحترفى الكذب فى بلدانهم الغربية وغير الغربية.

مشهد الاحتلال والاستيطان والغصب وإخلاء السكان الفلسطينيين من ممتلكاتهم فى حى الشيخ جراح، مضافاً إليه المواجهات بين الفلسطينيين فى مدينتى اللد والناصرة وغيرهما مع المستوطنين الصهاينة وقوى الأمن الصهيونية، والعدوان الهمجى والشرس على قطاع غزة، وهدم المبانى السكنية بما فيها وسائل إعلام عالمية، والاستمتاع المرضى لدى «نتنياهو» ووزرائه بقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين بينهم النساء والأطفال وعائلات بكاملها، وهدم ما لديهم من بنية تحتية ضعيفة ومحدودة، وقيام الفصائل الفلسطينية بالرد وفق الإمكانات على العدوان وعلى الاستيطان وعلى العنجهية الإسرائيلية، ونجاح استهداف مدن تل أبيب وعسقلان وأسدود والمستوطنات الغاصبة المحيطة بالقطاع، وأيضاً استهداف مطارات أبرزها بن جوريون ووقف حركة الطيران الدولى إلى تلك المطارات، وتعطيل منشآت حساسة بعضها عسكرى، كلها مشاهد تؤكد أن الصراع سيظل موجوداً، وأن الأمن الذى تتصوره إسرائيل نظير استخدام القوة المفرطة ضد شعب أعزل، لن يتحقق ولو بعد مائة عام، وأن قوة الردع الموهومة إسرائيلياً لا قيمة لها أمام شعب يتمسك بهويته وحقوقه مهما كانت التضحيات. ولكن الغباء الاستراتيجى طويل الأمد الذى يقبض على عقول التطرف الإسرائيلى الصهيونى يمنعهم من إدراك الحقائق الكاشفة، ويزج بهم خطوة تلو أخرى نحو الهاوية. وهكذا هو درس التاريخ الإنسانى كله. السقوط المدوى لمن لا يعترف بالواقع حوله.

لقد أظهرت مظاهرات المساندة للفلسطينيين فى الغرب ذاته، ومواقف العديد من الرموز الإعلامية والفنية ذات الحضور الجماهيرى العالمى الرافضة للعنجهية الإسرائيلية، أظهرت أن المساندة الدولية الرسمية القائمة على النفاق للصهيونية، وإنكار الحق الفلسطينى لم تعد مضمونة كما كان فى العقود الماضية، وأن ثمة تحولاً فى الرأى العام لدى كثير من شعوب الغرب لمناصرة الشعب الفلسطينى وسيكون لها دور كبير فى تحول المواقف الرسمية. النموذج الأبرز هنا يبدو فى مواقف اليسار الأمريكى القوى فى داخل الحزب الديمقراطى والذى يرفض بقوة سياسات الكيان الهمجية، ويعترف بحق الشعب الفلسطينى فى الحياة والحرية، والمرجح أن يكون لها تأثير فى مواقف إدارة بايدن، التى تحاول إمساك العصا من المنتصف، عبر تأييد العدوان الإسرائيلى ومنع أى بيان دولى حول ما يجرى فى غزة، والحديث الهامس حول حق الفلسطينيين فى العيش بسلام، واستعدادها للعمل على تهدئة طويلة المدى.

بالقطع سوف تهدأ رشقات الصواريخ وتتوقف غارات العدوان، وإن لم يكن هناك عمل دولى يعالج جذر الأزمة، سوف يتكرر المشهد مرات ومرات، وهو ما حذرت منه مصر بوضوح كامل فى كلمة سامح شكرى أمام مجلس الأمن الدولى. والسؤال: متى سيفهم العالم رؤية مصر الرشيدة؟