ترسيم جديد لحدود المتغيرات على أرض فلسطين (1)
بعد أسبوع كامل من موجة التصعيد العسكرى الذى أعقب أحداث مدينة القدس، ما زال التوصيف الشامل لهذا الفصل لم يتشكل بعد، فهو يراوح مكانه بين نصف انتفاضة شاملة والوقوف على أعتاب حرب على قطاع غزة، بما قد يمدد مشاهدها لتطال نقاطاً رئيسية مهمة بالضفة الغربية، وتبقى مدينة القدس فى وضع الغموض رغم أن أحداثها الاستثنائية ينظر إليها باعتبارها المفجر لهذه التطورات والتداعيات. لكن قبل الوصول إلى محطة الحسم النهائى لتوصيف المشهد، قد يصل الجهد المصرى للخروج بصيغة توافقية لوقف جزئى -على الأقل- لإطلاق النار ما بين إسرائيل وفصائل قطاع غزة، هذا سينعكس بالضرورة على النظرة المستقبلية لمعادلات الوضع القادم، فمحطات التوقف عديدة ومتغيرة الدلالات كل يوم، بل كل ساعة، وفق حسابات المكسب والخسارة لكل جانب دون استبعاد دوائر الارتباط لكل منهما.
بالانتقال من التوصيف إلى قياس موازين ما جرى، نجدنا أمام حزمة كبيرة ومتنوعة من المتغيرات غير المتوقعة على الأقل من الجانب الإسرائيلى، الذى صار اليوم فى وضع انتظار لما سيؤول إليه الإخفاق الاستخباراتى الفادح، الذى ترك الأطراف الفاعلة فى إسرائيل تغط فى استرخاء من التقديرات الزائفة. الإخفاق الذى بدأت تتكشف ملامحه، أول ما برز كان بمدينة القدس فى سوء تقدير ردة فعل العائلات الفلسطينية بحى «الشيخ جراح»، ومحيطهم من العائلات المقدسية التى ظن الإسرائيليون أنهم قد يمررون قراراً لا معنى له سوى تصفية أخيرة لوجودهم على الأرض. التمادى فى غطرسة الاسترخاء دفع الشرطة الإسرائيلية إلى السماح بأن يقوم المتطرفون بالاعتداء على الفلسطينيين فى منطقة «باب العمود» لتشتعل الأرض على نحو مفاجئ، ويمثل حينها الاعتداء على ساحة الأقصى فى صلوات شهر رمضان المفعمة بالمشاعر، الشرارة التى استكملت للموجة التصعيدية جميع مكونات حضورها بسهولة وتدافع سلس للأحداث من أسفل الذقون الإسرائيلية المخدرة، التى ظنت أن القدس التى لم تشهد تحركاً واحداً وقت اعتراف إدارة دونالد ترامب بتوحيدها تحت السيادة الإسرائيلية، بالضرورة لن تتحرك مهما بلغ الانتهاك مداه. وعلى هذا النحو تمثل الإخفاق الاستخباراتى باعتباره أبرز المتغيرات التى أطلت لترسم خطاً غائراً فى الإطار الاستراتيجى لمجمل مشهد الصراع الفسلطينى الإسرائيلى.
الإخفاق الإسرائيلى يظل غائراً؛ باعتباره لم يقف عند حدود غياب المعلومات وسوء التقدير لردات الفعل فى محيط القدس الجغرافى والإجرائى، فامتداداته طالت غياب التنبؤ بإمكانية اشتعال المدن المشتركة الواقعة تحت إشراف الأمن الإسرائيلى، حيث بدا الأخير متناغماً مع حالة اليقين العام بأن انتظار المتغيرات وتبدلات المواقف، بعيد حتى عن السيناريوهات البديلة التى لم تظهر لها ملامح فى أداء أجهزة دولة إسرائيل على الأرض، حينما اشتعلت مدن ومناطق اللد وحيفا وبئر سبع وغيرها. والصراع فى هذه المناطق تجاوز إمكانيات قمع لسلطات الأمن، ليصير متبادلاً بين سكان يهود يحملون الجنسية الإسرائيلية وآخرين من أصول فلسطينية وجدوا أنفسهم نهباً لاعتداءات المتطرفين الذين هبوا لإحداث التوازن مع قوات الأمن المحلية. هذا النمط الجديد من الصراع مثَّل هو الآخر متغيراً بارزاً فى الإطار الاستراتيجى العام الذى نتحدث عنه، فالسكان من أصول فلسطينية الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية اضطراراً منذ عقود، غير مؤدلجين لصالح حركة حماس أو غيرها حيث ينطلق غضبهم من مفاهيم تدخل الصراع للمرة الأولى، ذات ارتباط وثيق بالتمييز العنصرى والانتهاك الحقوقى باعتبارهم رسمياً -على الأقل- مواطنين إسرائيليين.
هذه المفاهيم والمرجعيات الجديدة، وجدت لها صدى واسعاً داخل الولايات المتحدة خاصة بعد الاستخدام «المكثف» الاحترافى لوسائل التواصل الاجتماعى، من قبل الأجيال الشابة من الفلسطينيين أبناء مدن الداخل الإسرائيلى، التى نقل عليها عشرات الوقائع والمقاطع التى توثق حجم الاعتداءات الإسرائيلية بحق هؤلاء «المواطنين». صور المستوطنين بملابسهم المدنية وهم يتحركون فى جماعات مشهرين الأسلحة ويدمرون المنازل والممتلكات، جرى تناقلها فى المدن الأمريكية بكثافة خلال الأيام الماضية، وجد هذا صدى واسعاً لدى التيار التقدمى للحزب الديمقراطى الذى يسمونه باليسار الجديد، وأطلق معه موجة لم تكن فى حسبان أعضاء الحزب التقليديين أنفسهم، ناهيك عن الإسرائيليين الذين داهمهم -لأول مرة- سيل عارم من الانتقاد الأمريكى، وجد له مكاناً فى ساحات التظاهر التى خرجت من عديد من المدن والولايات الأمريكية، وظهر داخل سطور المقالات والتقارير الصحفية التى ظلت لعقود تغض الطرف عن مثل هذه الإشكاليات، بل وتمثل خط التبرير والدفاع الأول عن كل ما هو إسرائيلى. اليوم صارت توصيفات مثل دولة الاستعمار الأخيرة، ونظام الفصل العنصرى «الأبارتيد»، بعضاً مما كُتب عشرات المرات خلال أيام معدودة من عمر الأحداث!
هذا المتغير الأمريكى وحده، بما يحويه من قدرة التأثير على الأحداث بالنسبة لإسرائيل والفلسطينيين على السواء، لن يبرح مكانه سريعاً بقدر ما يبدو متعمقاً فى نسيج السياسة الأمريكية بأجيالها الجديدة، المتحررة نسبياً من قيود التراث الإسرائيلى وتنظر للصراع من زوايا جديدة تبرز للمرة الأولى، وتكتسب لها أرضية ومناصرين فى أماكن مثل الكونجرس بأعضائه الذين باتوا لا يخشون وصف الأداء الإسرائيلى الرسمى بـ«الإرهابى»، مثلما أعلنت «ألهان عمر» من أصول صومالية وأيدتها العضوة «رشيدة طليب» من أصول فلسطينية، ولم يقف الأمر عند حد الأعضاء أصحاب الأصول العربية بل ضمت قائمة الأصوات الجديدة غيرهم ممن ينتمون لهذا التيار، وبعيداً عن الكونجرس صاروا اليوم يمثلون جناحاً لا يستهان به داخل الحزب الديمقراطى، وينتشرون داخل مفاصل الإدارة فى كثير من الوظائف المؤثرة وينظر إليهم باعتبارهم الرافعة، التى أسهمت بصورة فعالة فى وصول «جو بايدن» إلى منصب الرئاسة فضلاً عن تحقيق أغلبية فى الكونجرس بغرفتيه، وهو ما يقيد كثيراً من تصور صدام الإدارة الحالية معهم.
يبقى المتغير الأخير وهو الطفرة الملموسة فى قدرات الفصائل المسلحة الفلسطينية على مستوى التسليح، والقدرة على إدارة تكتيكات التصعيد العسكرى المؤثر، وهو مما سنتناوله فى بقية خرائط الترسيم الجديد، الأسبوع القادم بمشيئة الله.