خارج أسوار القدس وحي الشيخ جراح
خارج الأسوار الملتهبة تتخبط إسرائيل فى أزمتها الداخلية، خصوصاً بعد التداعى الذى جرى فى أحداث القدس، فى ظل عزلة كبيرة وظاهرة على الأرض يستشعرها مسئولو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وهو ما يفسر خشونة وغلظة ما اندفعوا إليه وهم يواجهون قابلية كل الجبهات للاشتعال، للحد الذى أشارت إليه ووصفته صحيفة «معاريف» بأن الشرطة وصلت لميدان الأحداث جاهزة، فى وقت غابت فيه الحكومة المكلفة بصناعة غطاء سياسى. «نتنياهو» بدا مقيداً بالفعل وهو يرى الأحداث الأخيرة المشتعلة فى القدس الشرقية توفر وقوداً إضافياً للأزمة السياسية الواقعة فيها إسرائيل على خلفية العجز فى تشكيل الحكومة. والأمر هذه المرة يُنظر إليه باعتباره فصل النهاية لمشوار بنيامين نتنياهو السياسى، ففى أفضل سيناريوهاته سينتج إزاحته عن قيادة المشهد السياسى، وقبوله بالارتكان إلى الدرجة الثانية على سلم تراتب المشهد والنفوذ والقدرة على هندسة التحالفات الحزبية.
حى الشيخ جراح يشهد، منذ أكثر من أسبوع، مواجهات بين الشرطة الإسرائيلية وسكان الحى الفلسطينيين، بعد تصاعد التوتر بشأن الإجلاء المحتمل لعائلات فلسطينية من منطقة يطالب بها مستوطنون إسرائيليون.
الفلسطينيون، ولهم الحق، ينظرون لتلك الخطوة الأحدث باعتبارها نقلة كبيرة باتجاه التهويد الكامل للقدس، وتفريغ أخير لفرضية «حل الدولتين» التى تستخدمها الأطراف الغربية من أجل تسكين الأحداث من حين لآخر. ثلاثة أيام وليالٍ متتابعة شهدت المواجهات الأعنف بين الأمن الإسرائيلى والشباب الفلسطينى خلَّفت ما يزيد على (300 إصابة) فى صفوف الفسطينيين ونحو (25 إصابة) تكبّدها الأمن الإسرائيلى. وهذا دفع المحكمة العليا الإسرائيلية، يوم 9 مايو، إلى تأجيل جلسة كانت مقررة يوم 10 مايو للبت فى ملف إخلاء عائلات فلسطينية من منازل تقيم بها فى الحى الشهير بمدينة القدس لصالح مستوطنين. ويُعد هذا القرار هو التأجيل الثالث للقضية مثلما أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية، التى رأته محاولة لتبريد الاحتقان الكبير الذى تجاوز حدود حى الجراح وعبر أسوار القدس ليصل إلى عديد من الدول العربية التى أصدرت بيانات وبعثت برسائل شديدة اللهجة تدين تلك التحركات الإسرائيلية، خاصة مع مساحة غير قليلة من الرفض الدولى المماثل، الولايات المتحدة احتلت موقعاً بارزاً فى هذا الرفض، مما دفع المكابح الإسرائيلية للخروج كى تقوم بتصحيح مؤقت لمعادلات التصعيد.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى تبرز فيها ملامح لتغير أمريكى تجاه إسرائيل، والذى يستوجب التوقف أمامه هو فشل زيارة مدير المخابرات الإسرائيلية، والوفد الأمنى والعسكرى المصاحب له إلى واشنطن مؤخراً. كان لافتاً أن الوفد له هذه الصبغة، حيث ضم مع يوسى كوهين، رئيس الموساد، رئيس مجلس الأمن القومى مائير بن شبات، فضلاً عن جنرالين من قيادة أركان الجيش، وجميعهم توزع عليهم رؤية إسرائيلية بدت متجاوزة فيما يخص الانخراط الأمريكى مع إيران فى إعادة الحياة للاتفاق النووى. الجانب الأمريكى لم يرتح لهذه الزيارة الثقيلة، وتعامل مع أعضاء الوفد بوجه جامد، خاصة مع إعلان الوفد الإسرائيلى أن أهداف الزيارة تتمحور حول تقديم معلومات حساسة توضح دوافع الموقف الإسرائيلى الرافض لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووى مع إيران، وتذهب إلى الدفع نحو إبرام اتفاق نووى جديد يشمل شروطاً إسرائيلية تقلص من القدرات الشاملة لطهران، وتفرض عليها عقوبات فى حال جرى التراجع عن شروط الاتفاق، فضلاً عن توسيع دائرة الاتفاق ليشمل وقف مشروع الهيمنة الإيرانية فى الشرق الأوسط. جاء هذا اللقاء بعد زيارة وزير الدفاع الأمريكى الجديد «لويد أوستن» إلى تل أبيب بأسابيع، وجرى فيها تقديم تطمينات عديدة للجانب الإسرائيلى متضمنة معلومات قيّمة حول مجمل الوضع الأمنى فيما يخص إيران، لذا بدا الطرح الإسرائيلى الذى استهل بالإعلان عن عدم التزام إسرائيل بالاتفاق الذى تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة إبرامه مع طهران بمثابة غطرسة وحماقة فى غير محلها، خاصة أن إسرائيل غير موقعة على هذا الاتفاق، وهى بهذا تتجاوز أيضاً الدعم الأمنى والعسكرى الكبير الذى حمله الوزير أوستن لها.
منذ هذا الاستخفاف الذى أبدته إسرائيل تجاه مصالح الولايات المتحدة، أو على الأقل الإدارة الجديدة التى قرأت الطرح الإسرائيلى وما سُمِّى بـ«اشتراطات» على هذا النحو، بدأت الغيوم الكثيفة تعلو سماء الأحداث التى بدأت فى واشنطن وامتدت سريعاً لتل أبيب، فالأخيرة وجدت الأحداث تتدافع من حولها فى تسارع صعّب عليها إمكانية إيقافها، أو تعطيل ما جرى من جلسات بين الجانب السعودى والإيرانى فى العراق والذى لم يكن بعيداً عن التحفيز الأمريكى، فإسرائيل تتابع هذه الحركة السعودية بقلق كبير، حيث يغلب على هذه الاجتماعات محاولة تفكيك التأزم الاستراتيجى بين الدولتين على صعيد الملفات المتعددة التى تقاطعت فيها مصالحهما طوال السنوات الماضية. التقديرات الأوّلية للاجتماعات السعودية مع الأطراف الإيرانية بشائرها إيجابية، والتحفيز الأمريكى يتمثل فى أخذ التقدم على هذا المسار باعتباره حاضراً فى توافقات فيينا.
لذا تحرص طهران هذه المرة على إظهار قدر معقول من المرونة يمكّنها من حصد مقابله من الولايات المتحدة. هذه الخطوات الجديدة تؤرق وضع «نتنياهو» بل وأصابته بهزة كبيرة وهو يتجرع فشلاً مزدوجاً فى أولى خطواته مع الإدارة الأمريكية الجديدة وفى هذا الانصراف الخليجى عنه والذهاب لتأسيس معادلات توافق استراتيجى جديد، ستكون إسرائيل خارجها دون شك.
خارج أسوار القدس أيضاً على الجانب الفلسطينى، تحاول «حماس» كعادتها استثمار ما يجرى فى القدس وفى صلوات المسجد الأقصى باعتباره فعاليات لها الدور الأكبر فيها وتنتظر كيفية حصاد أثمانه السياسية لصالح الحركة، أو على الأقل الإضرار بالسلطة الفلسطينية بأكبر قدر ممكن، المثير أنها بدأت تقدم سراً لنتنياهو وللجانب الإسرائيلى بعضاً من مسارات الخروج من الأزمة، مثل الطرح الملغم الذى يستدعى «الدول الإسلامية» للدخول على خط أزمة الأقصى المسجد وإقامة الشعائر. وهى فى إطار انتهازيتها التقليدية تدرك أنها تلعب بنيران قد تفسد المشهد الشعبى العفوى برمته، لكن متى كانت «حماس» تكترث لمثل هذه الضوابط والمحددات الوطنية؟!