سد النهضة.. هل هو مقام على أراضٍ سودانية؟

أشرت فى المقال السابق إلى ما تدّعيه إثيوبيا من أن المعاهدات المنظمة للوضع القانونى لنهر النيل هى معاهدات استعمارية، وبالتالى فإنها غير ملتزمة بها، ولن تقبل بما تقول به كل من مصر والسودان فى هذا الصدد من إلزامية هذه المعاهدات للدول الثلاث.

وقد تصاعد الجدل حول هذه النقطة طوال الأسبوع الماضى بين السودان وإثيوبيا، حيث أعلنت وزارة الخارجية السودانية أن التسليم بهذا الادعاء الإثيوبى يعنى وجوب تسليم الأراضى التى يُقام عليها سد النهضة الآن، والمعروفة بإقليم بنى شنقول، إلى السودان، حيث كانت تاريخياً أراضى سودانية إلى أن تم ضمها إلى إثيوبيا فى إطار تسويات إقليمية رتبتها اتفاقية أديس أبابا لعام 1902، وهى الاتفاقية التى وقعتها بريطانيا نيابة عن السودان ومصر إبان احتلالها لهما من جانب، ووقّعها فى المقابل منليك الثانى إمبراطور إثيوبيا المستقلة، التى لم تكن خاضعة فى ذلك الحين لأى استعمار أجنبى على الإطلاق. ومن ثم فإن منطق الأشياء يقضى، حال القبول بهذا الادعاء الإثيوبى، بإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل توقيع الاتفاقية المذكورة، فيستعيد السودان بنى شنقول، ويصبح السد بالتالى مقاماً على أراضٍ سودانية.

والحق أن هذا السلوك الإثيوبى هو امتداد لموقفها القائم على فرض الأمر الواقع والضرب بقواعد القانون الدولى ذات الصلة عرض الحائط، فتأخذ منها ما يحقق مصالحها، وتنكر ما يحقّق مصالح الآخرين، وذلك بطريقة فجة تنبئ عن سوء النية. ولعل ما فعلته من قبل فى علاقتها بكل من الصومال وكينيا، بل وما فعلته بحق جزء من شعبها فى إقليم التجراى خلال الأشهر القليلة الماضية، خير دليل على صحة ما نقول.

وعود إلى اتفاقية عام 1902، التى استندت إليها وتمسكت بنصوصها إثيوبيا فى خلافها مع السودان حول الحدود فى سبعينات القرن العشرين عندما كان الأمر محققاً لمصالحها، ثم جاءت الآن تزعم أن الاتفاقية ذاتها غير ملزمة لها، لأنها جزء من الإرث الاستعمارى، فإننا نبدى عليها الملاحظات التالية:

أولاً: تتكون هذه الاتفاقية من خمس مواد، تتناول المادتان الأولى والثانية منها تحديد الحدود بين السودان وإثيوبيا وترسيمها. أما المادة الثالثة فيتعهد فيها الإمبراطور منليك الثانى، ملك ملوك إثيوبيا (وفق النص الوارد فى الاتفاقية) بعدم تشييد، أو السماح بتشييد أى أعمال على عرض النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يكون من شأنها أن تعيق تدفّق مياهه فى النيل إلا بموافقة السودان (هكذا النص فى وضوحه)، الأمر الذى كان يجب على إثيوبيا بمقتضاه أن تخطر مصر والسودان بنيتها فى إنشاء السد، وتحصل على موافقتهما عليه بعد الدراسة الدقيقة لآثاره وتداعياته عليهما، وهو ما لم تفعله إثيوبيا. أما المادتان الأخريان فتتعلقان بإقامة محطة تجارية بريطانية فى إثيوبيا، والتصريح لبريطانيا بمد خط سكة حديدية لربط السودان بأوغندا.

ثانياً: تتمتع هذه الاتفاقية، شأنها فى ذلك شأن كل الاتفاقيات المتعلقة بالحدود، بقدسية خاصة، أضفتها عليها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، التى استثنت اتفاقات الحدود من تطبيق مبدأ التغيير الجوهرى للظروف. وكذلك اتفاقية فيينا بشأن التوارث الدولى للمعاهدات لعام 1978، التى استثنت أيضاًً اتفاقات الحدود التى أبرمتها الدولة السابقة من إمكانية التحلل منها من جانب الدولة الجديدة. وذلك كله على سند من أن استقرار الحدود يعد شرطاً ضرورياً لتعزيز السلم والأمن الدوليين، وأن النزاعات بشأن معاهدات الحدود ستزيد مخاطر تهديد السلم العالمى.

ثالثاً: أقر الآباء المؤسسون لمنظمة الوحدة الأفريقية عند تأسيسها عام 1963 بقدسية الحدود المتوارثة عن الاستعمار، درءاً لما يمكن أن تثيره إعادة النظر فيها من حروب ومشكلات على السلم والأمن الدولى فى القارة، وهو المبدأ الذى أصبح واحداً من أهم المبادئ التى قامت عليها المنظمة، والتى اتخذت من عاصمة إثيوبيا مقراً لها.

مما تقدم، وغيره الكثير، يتضح وضوح الشمس سوء نية إثيوبيا فى التعامل مع مصر والسودان فى شأن سد النهضة، ومن ثم فإنه يتعين على الدولتين أن تستحضرا فى هذا المقام قول الحق تبارك وتعالى «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين».

وليس يصح فى الأفهام شىء

إذا احتاج النهار إلى دليل