سد النهضة.. هل يُجدي اللجوء إلى القضاء الدولي؟
فى الوقت الذى كانت مصر تحتفى فيه بالذكرى التاسعة والثلاثين لرفع العلم المصرى على آخر جزء من أرض سيناء الغالية بعد انتصارنا فى معركة التحكيم بخصوص طابا فى 25 أبريل، كان وزير الرى السودانى يعلن استعداد الفرق القانونية فى بلاده لمقاضاة الحكومة الإثيوبية بشأن «سد النهضة».
وبعيداً عن إشارة الوزير السودانى إلى مسألة مقاضاة الشركة الإيطالية المنفذة للسد، فإن الحديث عن مقاضاة الدولة الإثيوبية ذاتها يثير التساؤل حول الجهات التى يمكن أن يلجأ إليها السودان فى هذا السبيل، وحول مدى جدواها فى هذا التوقيت.
ومعلوم أن التقاضى بين الدول لا يكون إلا أمام القضاء الدولى، سواء أكان محكمة العدل الدولية، أم المحاكم الإقليمية التابعة للمنظمات الإقليمية التى ينتمى إليها المتنازعون، أم المحاكم المتخصصة التابعة لبعض المنظمات الدولية المتخصصة فى الموضوعات ذات الصلة، أم أمام محاكم التحكيم التى يُنشئها المتنازعون لهذه الغاية. وجدير بنا فى هذا المقام أن نبدى الملاحظات التالية.. أولاً: أن اللجوء إلى القضاء الدولى لتسوية المنازعات الدولية هو أمر اختيارى بحت لأطراف النزاع. فاختصاص القضاء الدولى هو اختصاص اختيارى وليس إلزامياً على الإطلاق. ومن ثم فإنه ليس ثمة ما يُلزم الدولة طرف النزاع أن تقبل هذا الاختصاص حتى وإن قبله كل أطراف النزاع الآخرين، فإن ذهب الآخرون جميعاً إلى القضاء الدولى وامتنعت دولة واحدة من أطراف النزاع عن الذهاب إليه، انتفى اختصاص المحكمة بإمكانية نظر هذا النزاع.
أما التحكيم الدولى فهو لا ينعقد أساساً ولا يكون ثمة وجود للمحكمة أصلاً إلا باتفاق الأطراف جميعاً، فهم -جميعاً مرة أخرى- من يُنشئون المحكمة، ويحددون لها القانون واجب التطبيق، ويحددون لها الإجراءات، إلى آخره، وفق ما يتفقون عليه فى مشارطة التحكيم. وعلى هذا فإنه ليس ثمة ما يُلزم الدولة بقبول اختصاص القضاء الدولى إلا إرادتها المستقلة. وبالتالى فإن لجوء السودان، حتى وإن سايرتها فيه مصر، سيصبح غير ذى جدوى على الإطلاق ما لم تقبل به إثيوبيا التى ترفض فكرة اللجوء إلى القضاء الدولى جملة وتفصيلاً.
ثانياً: من البدهى أن اللجوء إلى القضاء الدولى لتسوية منازعة ما إنما يُعد صورة من أوضح الصور التى تعبّر بها أطراف النزاع عن حسن نيتها، فهو يعنى أن هذه الدول تريد إعمال حكم القانون فيما يتعلق بالنزاع القائم، وأنها ستكون ملزمة بما ينتهى إليه القضاء من حكم فى ضوء أن أحكام القضاء الدولى نهائية لا تقبل الطعن عليها.
ولقد أبانت إثيوبيا عن سوء نيتها مراراً وتكراراً خلال السنوات العشر المنصرمة، فما الذى يضمن، بفرض قبولها اختصاص القضاء الدولى، أن تلتزم بما ينتهى إليه من حكم إن جاء على غير هواها؟ هل سنجبرها آنذاك على تنفيذ الحكم بالقوة المسلحة؟ وفيم كان تضييع الوقت والمخاطرة باكتمال الملء الثانى؟
ثالثاً: إن ما يشير إليه البعض من إمكانية اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية فى هذا المقام إنما هو خبط عشواء، لأن هذه المحكمة لا تحاكم الدول وإنما تحاكم الأشخاص الطبيعيين فقط عما قد يرتكبونه من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجريمة العدوان. وإذا صح أن النتيجة النهائية لإقامة السد على النحو الذى تسعى إليه إثيوبيا قد تؤدى إلى هذا كله أو بعضه فى المستقبل، فإن إثبات ذلك أمام المحكمة لن يتحقق قبل وقوع الواقعة. فضلاً، وهو الأهم فى هذا الصدد، عن أن السودان ومصر ليستا طرفين فى نظام روما المنشئ للمحكمة، ومن ثم فليس لهما بذاتهما إثارة المسألة أمام المحكمة.
رابعاً: معلوم أن القضاء الدولى، فى كل صوره، يستغرق وقتاً طويلاً، قد يصل إلى أعوام، قبل إصدار أحكامه، فما الذى يكون قد تبقى أمام إثيوبيا لم تفعله حتى يحول الحكم بينها وبينه؟ وما الذى ننتظره من دولة ترفع راية العصيان لقواعد القانون الدولى المستقرة تحت دعوى أنها معاهدات استعمارية؟ وهو ما قد نخصص له مقالاً مستقلاً. رحم الله الشافعى حين قال: ما حكّ جلدك مثل ظفرك.. فتول أنت جميع أمرك.