سد النهضة.. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
يأمرنا رب العزة جلّ وعلا فى كتابه الحكيم أن نُعد للأعداء الذين بيننا وبينهم عهد واتفاق، إذا توقعنا منهم الخيانة والغدر، من القوة ما يُرهبهم ويردعهم عن التفكير فى الخيانة، فيقول سبحانه وتعالى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم». وكما هو واضح من الآية الكريمة فالقوة هنا ليست قوة عدوان وبغى، وإنما هى قوة حماية وردع لمن يفكر فى الغدر والعدوان. وهو ما تؤكده الآية الكريمة الأخرى التى يقول فيها تبارك وتعالى: «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».
ومع الدعوة دائماً إلى السلام والبعد عن استعمال القوة والقتال، «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله»، يبقى استعمال هذه القوة لدفع العدوان ورده حقاً تكفله الشريعة، وكل شريعة، «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم».
ولعل هذه «الفلسفة القرآنية» -والتى تخيّرها «العقاد» عنواناً لواحد من أهم كتبه- فى التعامل مع مسألة الحرب والقتال لا تختلف فى شىء عن الفلسفة التى قام عليها نظام الأمن الجماعى الذى أتى به ميثاق الأمم المتحدة. فالأصل هو التسوية السلمية للمنازعات، والتى تقوم على أساس من مبدأ حسن النية فى العلاقات الدولية، فإن فشلت كانت الحرب، وفق الضوابط المنصوص عليها، هى الملجأ الأخير الذى يقوم عليه مجلس الأمن الدولى، فإن أخفق، فلا مناص من أن تقوم الدولة ذاتها بذلك ردعاً للمتعدى أو قمعاً للعدوان.
وبعبارة أخرى، فإن التفاوض والوساطة والمساعى الحميدة والتوفيق والقضاء واللجوء إلى المنظمات الإقليمية المعنية وغيرها من وسائل التسوية السلمية بحسن نية تبقى هى الأصل، فإن لم تفلح، وكان لا بد من آخر العلاج وهو الكى، كانت الحرب -كما قال شوقى- فى حق لدينا شريعة ومن السموم الناقعات دواء.
والحق أن الإشارة المتكررة إلى حسن النية فى هذا السياق إنما تتأسس على الرغبة فى إنجاح الوسائل السلمية لتسوية المنازعات بضمان أن تمارسها الأطراف وهى ترغب وتسعى بالفعل إلى الوصول إلى حلول ترضيها جميعاً وتضمن لها حداً أدنى من الحقوق قدر الإمكان، ودون أن يطغى أحد الأطراف على الآخرين. وفى مسألة سد النهضة، فقد أبانت إثيوبيا عن سوء نيتها منذ وضعت حجر الأساس للمشروع فى أبريل 2011 دون إخطار مسبق للدولتين التاليتين لها فى مجرى النهر وهما السودان ومصر، وكما هو معلوم فإن الإخطار المسبق ليس منّة من الدولة التى تقيم المشروع وإنما هو التزام عليها وإحدى أهم قواعد القانون الدولى المنظمة لاستغلال مياه الأنهار الدولية. كما أبانت عنه أيضاً بحجبها للمعلومات الإنشائية والفنية والبيئية المتعلقة بالسد حتى الآن رغم مضى ما يزيد على عشر سنين منذ بدأت فى إنشاء السد. وفى المقابل فقد أبانت مصر فى هذا السياق عن حسن نيتها مراراً وتكراراً، فأرخت حبال الصبر وأطالت نفسها فى مفاوضات طويلة كان الطرف الآخر فيها مراوغاً على الدوام، ووافقت على إعلان المبادئ ووقعت عليه فى مارس 2015، وقام رئيسها بزيارة إثيوبيا وإلقاء خطاب أمام برلمانها فى ذات الشهر أعلن فيه أن مصر ليست ضد تنمية إثيوبيا بحال من الأحوال ولا ضد رخاء الشعب الإثيوبى ورفاهيته، على ألا يكون ذلك على حساب حصة مصر من مياه النيل والتى هى بالنسبة للشعب المصرى الحياة ذاتها حيث يعتمدون عليها فى 96% من احتياجاتهم من المياه العذبة.
على أنه وفى ذات الوقت الذى كانت فيه مصر تتفاوض بحسن نية كانت تتحسب من سوء نية الطرف الآخر. فأعدت من القوة بمفهومها الشامل، عبر إعادة تسليح قواتها المسلحة، وعبر تأمين حدودها والتغلب على ما كان يتهددها من أخطار، وعبر استعادة السودان الشقيق إلى مكانه الطبيعى فى المعادلة إلى جوار شقيقته مصر، ما يمثل ردعاً لمن يفكر فى العدوان أو قمعاً له إذا ما أصر على عدوانه.
لقد حانت ساعة الحقيقة، فإما وجود اتفاق ملزم، تُحفظ فيه حقوق مصر والسودان، قبل الملء الثانى. أو هى الأخرى، وحينها لا يلومن الظالم إلا نفسه.
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم.. وما هو عنها بالحديث المرجم.