قطار طوخ.. وصينية السيدة هنية!
ربما قبل حادث قطار طوخ بساعات، أو حتى بدقائق، كان ذهن السيدة هنية أحمد طه مشغولاً إلى أقصاه ومزدحماً إلى آخره بتدبير شئون بيتها وحال أولادها واحتياجاتهم.. أو يفكر فى فاتورةٍ ما عليها دفعها بعد أيام أو حل موعد سداد قسط ما لأشياء قديمة بالمنزل هلكت ولم تزل أقساطها حية تنتظر تسديدها.. أو تتفكر فى كيفية أداء الواجب، حتى فى ظل كورونا، مع أقارب أو جيران أو أصدقاء للعائلة.. يحتاج هذا نقوط زواج، أو تحتاج هذه نقوط الإنجاب الجديد!
هذا هو حال أهلنا فى الريف والصعيد كله وفى الأحياء الشعبية.. الظروف متشابهة للغاية.. المعاناة واحدة والأفراح واحدة والقيم واحدة!
لكن تأتى الاختبارات الكبرى لتكشف فى شعبنا عن المعادن الأصيلة.. وفى كل مرة ينجح فيها وإلى حدود الامتياز.. هنا يشتعل فتيل النخوة والشهامة والشرف والكرم ليزيح الصمت عنا.. ويزيل الغبار المتراكم بفعل عوامل كثيرة.. لنرى المصرى الأصيل على حقيقته.
تصل أنباء القطار إلى قرية كفر الحصة بطوخ.. يتجه الرجال والشباب والصبية إلى حيث الإنقاذ والإسعاف والتعامل الميكانيكى والإنسانى مع الحادث.. بينما السيدة هنية تصنع لنفسها دوراً.. دوراً إضافياً لم يطالبها به أحد.. ولن يلومها أحد على تركه.. وتدرك أن الناجين من الحادث سيبقون فترة من الوقت وسيحتاجون إلى الطعام والغذاء بعد الكارثة التى ألمت بهم وحادث أربك حساباتهم جميعاً.. فلا هم وصلوا إلى حيث يريدون، ولا هم سيعودون من حيث أتوا.. وضيافتهم واجبة.. كيف يكونون أمام قريتها ولا يحصلون على واجب الضيافة كما ينبغى؟! كيف يمكن أن يسجل التاريخ -أو حتى تاريخ حوادث القطارات وحده- أن حادثاً خطيراً خلَّف جرحى ومصابين وقع بجانبهم وجاءت الإسعاف وجاءت الشرطة وجاءت قيادات السكة الحديد وجاء المسئولون من كل مكان.. ولم يقوموا هم بواجب الضيافة؟!
فى دقائق تحسم السيدة هنية الأمر.. قرار الضيافة لا تردد فيه.. إنما من أين لها بالوفاء باحتياجات ركاب قطار بكامله حتى لو كان قليل الازدحام؟! الحل فى التوكل على الله وأن تؤدى ما عليها والباقى عليه سبحانه!
كان يمكن للسيدة هنية أن تلجأ إلى طرق ضيافة عديدة.. ساندويتشات سريعة وربما أوفر كثيراً، ولن يلومها أحد، بل سيكون لها كل الشكر.. وهى فى هذه الحالة ستستطيع توفير الطعام لأكبر عدد من المصابين القادرين على تناول الطعام.. رغيف لكل منهم بأى محتوى.. ولن يلومها أحد!
لكن كان أكبر وأهم لائم سيكون لها بالمرصاد.. ضميرها الذى لن يتركها وشأنها أبداً!
تنطلق إلى مطبخها.. أعلنت التعبئة العامة بالمنزل.. كل ما فيه من لحوم ودواجن.. وكل ما فيه من أرز.. بكل ما فيه من خضراوات أو بشراء ما تحتاجه منه.. وبكل ما فى البيت من زيوت أو سمن وكل متطلبات الوجبات الساخنة.. الريفية شديدة الروعة!
وتعد طعامها سريعاً سريعاً، فلا وقت لأى ثانية تضيع.. كل منها سيمر على هؤلاء المصابين وحتى نقلهم من أماكنهم على جانبى الطريق حتى وصول ذويهم.. سيمر كدهر كامل!! بل حتى إن ذويهم أنفسهم ينبغى ضيافتهم!!
وتنطلق السيدة هنية بالطلعة الأولى.. أول صينية طعام تخفف كثيراً من ألم المصابين وأوجاع الجرحى وحزن الناجين بأعجوبة، وتلطف من هلع وفزع الجميع! ومن الصينية الأولى إلى الثانية.. ولم لا والخير كثير.. ولم لا وحالة الطوارئ فرضتها فى بيتها بفرمان الكرم والأصالة؟!
فى الصينية الثانية يبدو المشهد شاملاً كاملاً وعلى حقيقته.. وعلى روعته.. مواكب الصوانى تنطلق من بيوت القرية كلها.. مواكب الخير جاءت ولا يعرف أحد كيف ولا من أين ولا متى جاءت.. لكنها هنا.. بالفعل جاءت!
من يتأمل المشهد يدرك أن السيدة هنية ربما قدمت كل ما تمتلكه فى هذا الموقف.. وقد تكون ميسورة الحال ولم يؤثر ذلك فى معيشتها وساعدها أحد فيما فعلته.. لكن عندما تقول هى نفسها، وبتواضع يثير الإعجاب بها وبأخلاقها أكثر وأكثر، إن كل أهل القرية قدموا طعامهم ولم تكن وحدها ندرك أن كثيرين قدموا فى هذه الحادثة كل ثروتهم!!
بالطبع ربك عنده الخير كله. ولا تنقص هذه الأعمال الجليلة شيئاً من مال أصحابها.. بل يباركها رب الناس فتزيد وتزيد.. لكن كان الاختبار كاشفاً عن المعدن الأصيل لشعبنا.. شعبنا الذى لم يعرف جملة «وانا مالى» ولا منطق «إياكش تولع طالما بعيد عنى»، ولا يعرف حتى فكرة إلقاء المال فى الحوادث الكبرى لإثبات حالة وذراً للرماد فى العيون. باختصار ما تراه بعيداً عن المصرى الحقيقى الأصيل لا يعبّر عنا...ما تراه فى بعض الأعمال الدرامية لا يعبّر عنا.. بعض الفئات فى قمة المجتمع أو بعضه فى أدناه لا يعبّرون عن شعبنا.. طبقته الوسطى العريضة.. مخزن القيم.. هى التجسيد الحقيقى لأخلاق المصريين.. عبّرت عنه السيدة هنية طه أحمد وقريتها وطوخ كلها على أروع ما يكون.. هذه النماذج الطيبة وغيرها كثير جداً ينبغى أن تتصدر الشاشات.. ضيوف فى الاستوديوهات وضيوف فى التقارير الخارجية! كل التحية للسيدة هنية