معارك وزير التربية والتعليم.. وجراحنا الأليمة
أخيراً استطاع مجلس الشيوخ أن يناقش الدكتور طارق شوقى، وزير التربية والتعليم، وهو الرجل الذى يضيق صدره بأى نقاش، ولا يريد لأحد -أياً كانت صفته أو مؤهلاته أو مصلحته- أن يراجعه فى قرار من قراراته التى اعتدنا على صدورها وكأنها «تنزيل» إلهى لا يحتمل المناقشة، حتى وإن تسببت فى حالة من الارتجاج الرهيب لملايين الأسر المصرية، وأخيراً أيضاً، لم يكتفِ مجلس الشيوخ بمناقشة الوزير فى قراراته، ولكنه رفض بما يشبه الإجماع، مشروع التعديل الذى تقدم به الدكتور طارق شوقى لبعض أحكام قانون التعليم رقم ١٣٩ لسنة ١٩٨١، والتعديل الذى أراد الوزير تمريره -دون نقاش أو اعتراض- يهدف بالأساس إلى تعديل نظام المرحلة الثانوية العامة ليصبح ثلاث سنوات بدلاً من سنة واحدة أو سنتين، واحتساب المجموع على أساس ما يحصل عليه الطالب من درجات فى نهاية كل سنة من السنوات الثلاث، ويتيح المشروع للطالب أن يقوم بأداء أكثر من محاولة فى امتحان نهاية العام لكل سنة دراسية، ويحق للطالب دخول الامتحان أكثر من مرة على أن تكون المرة الأولى فقط مجانية، والمرات الأخرى برسوم، ويسمح المشروع بعودة نظام التحسين فى بعض المواد بمقابل رسوم لا تزيد على ٥ آلاف جنيه عن المادة الواحدة، وأخيراً يسمح المشروع بأن يكون الامتحان ورقياً أو إلكترونياً، والأهم من كل ذلك ما ذهب إليه التعديل من أنه «يجوز وضع أسس وطرق تقييم حديثة ومبتكرة تكون من ضمن عناصر تقييم الطلاب بجانب الامتحانات، وتدخل درجاتها بنسبة تُحدد ضمن عناصر المجموع المحتسب للطلاب عن كل عام دراسى على حدة».
والمتأمل لتعديلات الوزير على نظام الثانوية العامة يدرك على الفور أنها تحقق ثلاثة أهداف فى منتهى الخطورة: الهدف الأول هو أن تكون الثانوية العامة ثلاث سنوات بدلاً من سنة واحدة أو سنتين، وهو هدف يتناقض كلياً مع ما قاله الوزير عشرات المرات حول أنه يريد أن يخلص الأسر المصرية من «بعبع» الثانوية العامة، فإذا به يقترح تعديلاً يضاعف «البعبع» ثلاث مرات، والهدف الثانى هو تقنين نظام يسمح بتحويل التعليم الأساسى من «تعليم مجانى» إلى تعليم برسوم، تصل إلى حوالى ٥ آلاف جنيه فى حالة «التحسين»، وهو الأمر الذى يتناقض كلياً مع مواد الدستور، ويهدم مبدأ تكافؤ الفرص من أساسه، لأن الغالبية العظمى من المواطنين لا تملك هذا المبلغ الفاحش الذى يتيح لها «تحسين درجات» أبنائها فى بعض المواد، فيما تملك الأقلية عشرات أضعاف هذا المبلغ الذى يتيح لأبنائها فرصاً يستحيل إتاحتها لأقرانهم من الفقراء!
أما الهدف الثالث فيتلخص فى القضاء النهائى على عدالة مكتب التنسيق فى توزيع الطلاب على الكليات التى حصلوا على الدرجات المؤهلة للالتحاق بها، ومهما قيل فى مثالب مكتب التنسيق، فلا يمكن إنكار أنه «العدالة الباقية» للغالبية العظمى من المصريين، إنه أقرب ما يكون إلى العدالة معصومة العينين التى تستند إلى مؤشر واحد فى تحديد مصائر وأقدار خريجى الثانوية العامة، دون نظر إلى الطبقة أو الفئة التى ينتمى إليها هذا أو ذاك.. وإدخال الوزير لعناصر أخرى «حديثة ومبتكرة ضمن عناصر التقييم واحتساب درجات كل سنة دراسية»، يفتح أبواب الجحيم على مصراعيه، ويمنح للجان التقييم فى المدارس والإدارات التعليمية سلطة رفع وخفض درجات الطلبة، وفقاً لأهواء ومصالح وتربيطات وتوصيات لا يعلم مداها المدمر غير الله، وربما الشيطان أيضاً.
بقى هدف رابع يقل أهمية عن الأهداف الثلاثة السابقة، ولكنه تحول -ربما عن قصد- إلى عاصفة ترابية ألقت على عيوننا غشاوة، وأثارت نقاشاً مجهداً وأضاعت تركيزنا عن مخاطر التعديل الأكثر خطورة، وأقصد به موضوع «التابلت» وما تفرع عنه من إلغاء طبع الكتب وغلق المدارس بالضبة والمفتاح، وتقنين الدروس الخصوصية فى المدارس بدلاً من «السناتر»، وإجراء الامتحانات إلكترونياً -بحجة منع الغش- بدلاً من الامتحانات الورقية، والحقيقة التى لا يمكن الهروب منها فى معارك «تابلت» الدكتور طارق شوقى، أنها لا تمت إلى مشروع تطوير التعليم بأدنى صلة، فالمناهج التعليمية فى كل مراحل التعليم الأساسى، ما زالت كما هى، وخصوصاً فى المرحلتين الإعداية والثانوية، ولم يحدث أبداً أن طرأ عليها أى تطوير أو تعديل أو تصحيح للأخطاء الكارثية الموجودة فى كل المواد، وكل الذى حدث أن وزارة التعليم فى عهد الدكتور طارق شوقى قامت بحمل هذه المناهج البائسة والمتخلفة من الكتب ووضعتها على التابلت، وقد كان الدكتور محب الرافعى، عضو مجلس الشيوخ ووزير التربية والتعليم الأسبق، حاسماً وهو يرد على «طارق شوقى» بقوله: مشكلة الثانوية العامة ليست فى عدد السنين ولا فى الامتحان الورقى، لكنها فى نوعية وجودة التعليم بكل عناصره، المعلم والمدرسة والمنهج».. ورغم صحة ما قاله الرافعى فقد رد عليه الدكتور طارق بعصبية شديدة قائلاً: «مافيش تعليم بناء على ما يطلبه المستمعون.. الامتحان الإلكترونى يوفر المال والتكلفة فى النقل، ويمنع التسريب.. الأمور مش فذلكة»!!.
وبغض النظر عن نزعة التعالى فى رد الوزير، ثم بغض النظر عن اتهامه لأعضاء مجلس الشيوخ بأنهم فى رفضهم لمشروع قانونه يقفون ضد الدولة.. ثم بغض النظر ثالثاً عن مصادرة الوزير لحق أولياء الأمور «الذين يريدون نظاماً آمناً للثانوية العامة يضمن وصول أبنائهم للجامعة بطرق سهلة وآمنة» -على حد قوله- وكأن الأصل الذى يريد أن يفرضه علينا طارق شوقى أن يكون التعليم غير آمن ولا يضمن أبداً وصول أبنائنا إلى الجامعة بطرق سهلة وآمنة!! ورغم ذلك، ومع غض البصر عن كل ما قيل، تظل هناك حقائق راسخة لا يمكن للدكتور طارق شوقى أو لغيره أن يراجعنا فيها، هى أن التعليم الأساسى والجامعى فى أرقى نظم التعليم بالعالم ليس إلكترونياً، وأن أفضل أربع دول فى جدارة وتقدم مناهج ونظم التعليم، وهى فنلندا وكندا واليابان وألمانيا لا تعرف تعليماً بنظام التابلت، ولا امتحاناً إلكترونياً.. وأن دولة الإمارات -مثلاً- طبقت التعليم والامتحانات بنظام «التابلت» على بعض سنوات النقل عام ٢٠١٧، ثم قامت بإلغائه فوراً بعدة عدة شهور، وأن وزارة التربية والتعليم المصرية ذاتها طبقت نظام التعليم بالتابلت عام ٢٠١٤ فى بعض المحافظات الحدودية وتعاقدت مع وزارة الإنتاج الحربى لصناعة التابلت، ثم قامت الوزارة بإلغاء الفكرة تماماً فى السنة ذاتها!
اللافت أيضاً فى قرارات الوزير التى لا يراجع فيها أحداً، ولا يطيق نقاشاً حولها، أنه هو أول من يتراجع عنها دون سابق إنذار، ودون أدنى اعتبار للاضطرابات المخيفة التى تترتب على القرار وإلغائه، وبدلاً من أن يقدر الوزير غضب أولياء الأمور، اعتدنا منه الضيق الشديد من أولياء الأمور «الذين يريدون دخول أبنائهم الجامعة بطرق آمنة وسهلة».. وخلال الشهور الماضية اتخذ الوزير قراراً بإلغاء امتحانات الشهادة الإعدادية فى التيرم الأول، ثم فاجأنا بقرار آخر فرض به على طلاب الإعدادية أداء الامتحان، ثم قرر الوزير إلغاء الامتحانات الورقية لأولى وتانية ثانوى، وقبل أيام فوجئنا به يعيد الامتحانات الورقية ويلغى الامتحانات الإلكترونية ويرغم الطلبة على الذهاب للمدارس، والأخطر من ذلك أنه أصدر قراراً بأن يمتحن الطلاب ثلاث أو أربع مواد فى يوم واحد وفى ورقة واحدة، على أن تكون مدة الامتحان فى المواد كلها ساعة ونصف الساعة فقط.
ثم قرر الوزير أن تكون الامتحانات بنظام عجيب أطلق عليه اسم «بابل شيت»، وبعد شهر واحد قام بإلغاء القرار، ثم قال الوزير إن امتحانات الثانوية العامة ستكون إلكترونية لجميع الطلبة بمن فيهم المنازل والمرضى والمسجونون، ثم عاد أمام مجلس الشيوخ ليؤكد أن الامتحانات ستكون إلكترونية بنسبة ٨٠٪ وورقية بنسبة ٢٠٪ للمسجونين والمنازل والمرضى!!
والحاصل أننا تعبنا يا معالى الوزير، وأن كل البيوت الآن تعانى من اضطراب خطير بسبب إصدار القرارات ثم التراجع عنها، وأن كل من لديه ابن أو ابنة فى الصفين الأول والثانى الثانوى يعيش فى توتر وألم بالغين، ويترقب -فى حسرة- أيام ٢٦ و٢٧ و٢٨ أبريل الجارى، وينتظر انهياراً مخيفاً لفلذة كبده وهو عائد من امتحان ٤ مواد فى ورقة واحدة، وفى نهار رمضان وهو صائم، وأخيراً، يا معالى الوزير: ما الذى يمكن أن ينتظره بلد من نظام تعليم يمتحن الطلاب فى مواد الكيمياء والفيزياء والأحياء فى ورقة واحدة فقط، ولمدة ساعة ونصف؟!.. المؤكد أننا سنخرج من هذا الاضطراب الجنونى بكراهية مطلقة للفيزياء والكيمياء والأحياء.. فى زمن أصبح فيه التطور والتقدم والرقى الإنسانى مشروطاً بحب أبنائه لهذه العلوم الرفيعة.