أين ذهبت مليارات «المستريحين»؟!
فى ١١ مارس الماضى سقط «مستريح البيتكوين» فى قبضة مباحث الأموال العامة، بعد حوالى عام كامل من بحث ضحاياه عنه، وبعد آلاف البلاغات التى تقدموا بها فى النيابات المختصة بمعظم محافظات مصر، من أسوان إلى الإسكندرية، ومن البحر الأحمر إلى مطروح والوادى الجديد.
ولعل حكاية هذا الشخص تحديداً، الذى يعرفه الضحايا باسم «مستر عزت»، تصلح نموذجاً مذهلاً لظاهرة «القابلية للنصب» التى تفشّت فى مجتمعنا خلال السنوات القليلة الماضية، كما تصلح نموذجاً لدراسة الأسباب التى أدت بآلاف المواطنين المتعلمين إلى تصديق شخص لا يملك حتى مؤهلات نصاب محترف، ولكنه فى الحقيقة نصاب شديد الوضوح فى نصبه، وكذاب يمكن اكتشاف كذبه بسهولة شديدة، ولكن معظم ضحاياه بذلوا جهداً كبيراً لإقناع أنفسهم بأنه الصادق الأمين الذى أرسلته العناية الإلهية لمضاعفة أموالهم فى غمضة عين.
وأغرب ما فى حكاية «مستر عزت» أنه أعلن منذ أول لحظة لكل ضحاياه أنه يستثمر أموالاً فى العملة الافتراضية «البيتكوين» التى تُحقق مكاسب خرافية فى وقت قياسى، ولأن البنك المركزى المصرى يجرّم التعامل بهذه العملة أو المضاربة عليها، فقد اتفق معهم على تحرير عقود اتجار فى الإلكترونيات حتى لا يقعوا جميعاً تحت طائلة القانون، وخلال الشهور الأولى من «النصب» راح «مستر عزت» يستعرض لضحاياه اتساع تجارته إلى درجة امتلاكه مزرعة «تعدين بيتكوين» فى ولاية جورجيا الأمريكية.. وأن هذا التوسّع يقتضى مساهمة الضحايا بفوائد الاستثمار التى تتراوح بين ٥٠ و٨٠٪، وكان كلما حلت مواعيد صرف أرباح للضحايا يعلن عن مزايا جديدة ومكاسب أكثر لمن يؤجل صرف الأرباح ويساهم بها فى التوسعات الجديدة!
والمذهل أن الغالبية العظمى من ضحاياه تنازلوا بمحض إرادتهم عن صرف الأرباح لزيادة استثماراتهم فى هذا المشروع العملاق، وجاء ارتفاع سعر عملة «البيتكوين» من خمسة آلاف دولار للحبة الواحدة إلى ٦٠ ألف دولار، لتصيب الجميع بحمى التدافع والتضحية بالأرباح الشهرية على أمل الحصول على أضخم عائد بعد شهور قليلة، ولكن -وكما يقول عشرات الضحايا فى فيديوهات مصوّرة- كان هناك دائماً من طالبوا بصرف الأرباح المستحقة ورفضوا الانتظار، لأنهم استشعروا بعض الخطر، خصوصاً أن «مستر عزت» بدأ يتوارى عن الأنظار ويُصدِّر وكلاءه المنتشرين فى حوالى ٢٠ فرعاً لشركته لتهدئة المتشككين، وكانوا كلما ألحوا فى رؤيته أو الحديث معه، اكتفى بمخاطبتهم عبر جروبات مغلقة على السوشيال ميديا!
ولأن «مستر عزت» نصاب شديد الوضوح، فقد ظل يماطل ويبحث عن أسباب منطقية لتأجيل صرف الأرباح، حتى جاءت جائحة كورونا فى فبراير ٢٠٢٠، فأعلن لضحاياه أنه سيضطر إلى إيقاف التعامل على «البيتكوين» حتى تنتهى الجائحة، وهو الأمر الذى انتبه معه عدد قليل جداً من الضحايا إلى التناقض الصارخ فى حجته الجديدة، لأن الجائحة تسببت فى كساد كل أنواع التجارة باستثناء التجارة الإلكترونية، وشهد «البيتكوين» تحديداً ارتفاعات ضخمة وقفزات عملاقة، وعندما واجهوه بتناقض ادعائه، فوجئوا به يسخر منهم ويهددهم بالحبس إذا فتح أحد منهم فمه بكلمة واحدة.
بعض الضحايا خافوا فعلاً من تهديده، عندما انتبهوا إلى أن موقفهم يشبه الاشتراك مع «تاجر مخدرات» فى جرائمه، فليس معقولاً أن يذهب مواطن إلى الشرطة أو النيابة للإبلاغ عن أن تاجر مخدرات نصب عليه وأكل أمواله.. ولكن بعض الضحايا اهتدى إلى محامٍ طمأنهم بأنهم تعاقدوا مع النصاب على تجارة إلكترونيات وليس المضاربة فى «البيتكوين».. وعندما تجرأ هؤلاء وتقدموا ببلاغات سارعت مباحث الأموال العامة بالإسكندرية إلى القبض على «مستر عزت» لتحدث بعد ذلك أغرب دراما فى تاريخ النصب.
كان عدد الذين أبلغوا عن «عزت» لا يزيد على ١٠ أشخاص، ولم يكن «عزت» المحبوس يملك تحريك أمواله التى زادت على ٣٠٠ مليون جنيه، لدفع الكفالة التى تمكنه من مغادرة السجن، ولا أحد يعرف حتى الآن كيف تمكن عزت من إقناع بقية الضحايا بأن حبسه تسبّب فى تجميد تجارته، وأنه يريد أن يخرج لتنشيط حساباته وصرف كل أموال الضحايا بأرباحها، والمدهش أن الضحايا اقتنعوا بوجاهة حجته فسارعوا إلى جمع مليون جنيه ودفعوا الكفالة نيابة عنه، وبعد الإفراج عنه بـ٤٨ ساعة فقط فوجئوا بعزت يطالبهم بانتخاب لجنة حكماء من بين الضحايا للتفاوض معه، وهو واثق تمام الثقة أنهم لن يتفقوا أبداً على شىء.. وما هى إلا أيام حتى اختفى من جديد، وأغلق كل فروع شركاته فى كل محافظات مصر!.
ومع اختفائه، راحت البلاغات تنهال على فروع مباحث الأموال العامة فى المحافظات، ليتضح منها أن نسبة كبيرة من ضحاياه هم من أصحاب شركات المقاولات الصغيرة الذين كانوا يتكسّبون أرزاقهم من العمل المتواصل فى بناء العمارات والمنازل والتشطيبات الداخلية والخارجية، ومع صدور قرارات وقف كل أعمال البناء فى كل المحافظات اندفعوا -دون أدنى تفكير- فى استثمار رؤوس أموالهم لدى عشرات النصابين الذين انتشروا فى كل مدينة من مدن مصر.. ومن يستمع للحكايات المنتشرة على السوشيال ميديا يكتشف أهوالاً لا يصدقها عقل، فعدد غير قليل من الضحايا الأوائل لهذه الظاهرة، تحولوا إلى وكلاء خلال الشهور الأولى لإقناع أقاربهم ومعارفهم بالأمان المطلق لهذا النوع من التجارة العجيبة التى تتراوح أرباحها بين ٣٠ و٨٠٪، ومع وقوع الكارثة سارع معظم الضحايا إلى تقديم بلاغات فى النصابين، وفى الأشخاص الذين أقنعوهم باستثمار أموالهم مع هذا النصاب أو ذاك.. وإذا بآلاف الضحايا فى كل قرية مصرية الآن، وقد تحولوا إلى جناة ومتهمين، وهم فى الوقت نفسه مجنى عليهم ضاعت أموالهم وانهارت بيوتهم فى غمضة عين!
أحد هؤلاء الضحايا اتصل بى -بعد مقال سابق عن تفشى ظاهرة «المستريحين»- ليشرح لى مأساته المركبة وعذابه المضاعف، فقد تبدّد شقاء عمره بعد أن باع نصف فدان وسيارة نقل ومصاغ زوجته ووضع كل ما يملك مع شخص قال إنه يحقق أرباحاً طائلة من التجارة فى الملابس المستوردة، وظل لمدة ٦ شهور يتقاضى ٣٥ ألف جنيه شهرياً بانتظام شديد، وخلال هذه الفترة تحول دون أن يدرى إلى «وكالة إعلانات» متنقلة فى القرية وعلى المقهى، وكان حديثه عن أمانة هذا الشخص سبباً فى تدافع أكثر من مائة مواطن لاستثمار أموالهم مع النصاب، وبعد انكشاف الخديعة، أصبح هو نفسه مطالباً برد هذه الأموال التى تزيد على ١٥ مليون جنيه لهؤلاء الضحايا، والمؤلم -كما يقول- أنه يشعر حالياً بأنه مسئول فعلاً عن توريط أقاربه وأهل قريته فى هذه المأساة، خصوصاً أن النصاب قبل هروبه من مصر لجأ أيضاً إلى حيلة تشكيل لجنة حكماء لتسوية الخلافات بينه وبين الضحايا، واختاره ليكون أحد أعضاء هذه اللجنة التى ساهمت بدور إضافى فى تسكين مطالبات الضحايا حتى تمكن النصاب من الهرب!.
إن هذه القصة تتكرر فى معظم قرى مصر حالياً، فالضحايا -وهم مئات الآلاف- فقدوا الأمل فى العثور على النصاب الأصلى، ولم يعد أمامهم غير مقاضاة الضحايا الأوائل الذين كانوا سبباً فى توريط غيرهم عن طريق الدعاية المكثفة للنصابين والحديث الدائم عن أمانتهم وضخامة أرباحهم، وحتى بعد القبض على أحد النصابين -مثل مستريح البيتكوين- واستغراق التحقيقات والمحاكمات شهوراً طويلة وربما سنوات، تظل الخلافات والاتهامات معلقة برقبة الضحايا الأوائل الذين غادر كثيرون منهم قراهم وبيوتهم هرباً من انفجارات غضب آلاف الضحايا الذين فقدوا الأمل تماماً فى العثور على النصاب الأصلى، ولم يعد أمامهم غير مطاردة أبواق الدعاية وتهديدهم بخطف أولادهم أو بتدمير أسرهم إذا لم يظهروا فوراً ليساعدوهم فى استرداد أموالهم، والحال كذلك، علينا أن نتوقع مآسى خطيرة وجرائم إضافية تهدد السلم الاجتماعى بسبب تداعيات هذه الظاهرة الرهيبة، ظاهرة توظيف الأموال مع مغامرين لا أحد يعرف.. أين هم الآن؟! ولا أين خبأوا المليارات التى أخذوها من ملايين الضحايا؟!