بايدن وبوتين.. هدوء ما قبل العاصفة

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

«هدوء ما قبل العاصفة» تعبير وصف به أحد المحللين الروس البارزين الوضع الراهن فى العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. جاء التعبير فى سياق تحليل يناقش الطريقة التى قد يتعامل بها الرئيس الروسى بوتين مع الولايات المتحدة فى ظل إدارة بايدن، والذى وصف نظيره الروسى بالقاتل. الوصف كما اتفق عليه جاء قاسياً وغير معتاد فى علاقات القيادات والرؤساء بعضهم ببعض حتى لو وصلت الأمور بين دولهم إلى أدنى الدرجات.

وحسب ما قيل فى الإعلام الروسى فإن هذا التعبير الفج يعكس حالة تراجع عقلى للرئيس الأمريكى، نظراً لكبر سنه، مما جعله ينسى حتى اسم وزير دفاعه واسم جهاز المخابرات الأمريكية، ومن هنا جاء الرد الهادئ للرئيس بوتين، متمنياً للرئيس الأمريكى الصحة والعافية، وكأنه يذكّره بوضعه الصحى.

من الواضح أن السياسة الأمريكية، سواء فى عهد الجمهوريين أو الديمقراطيين تحكمها عوامل دائمة فى ما يتعلق بكيفية الحفاظ على دور القوة الأعظم فى العالم وكيفية ردع المنافسين المحتمَلين، وأبرزهم تاريخياً الاتحاد السوفيتى، ثم الوريثة روسيا، بالإضافة إلى الصين التى تُمثل «البُعبع» الاقتصادى والتكنولوجى الأول للتفوق الأمريكى عالمياً. وأبرز هذه العوامل الانطلاق فى العلاقة مع المنافسين المحتمَلين، باعتبارهم أعداء لا يمكن التسامح معهم، حتى إن كانت هناك تعاملات بينية تجارياً أو سياسياً، أو ترك الفرصة لهم لتعزيز تفوقهم فى مجال أو أكثر يمثل للولايات المتحدة قيمة استراتيجية كبرى وسبباً مباشراً للتفوق والسيادة على الآخرين.

ويلحق بذلك عامل آخر يتمثل فى اعتماد أسلوب العقوبات ضد هؤلاء المنافسين، وأيضاً من يتعامل معهم لتوجيه ضربات مباشرة إلى مفاصل أساسية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لديهم، لغرض عزلهم وتقليص قدراتهم على مواصلة تحدى الولايات المتحدة.

أما العامل الثالث فهو مواصلة الانتشار فى مواقع مختلفة من العالم لفرض وجود عسكرى ذى طابع استراتيجى، بما يوفر مزايا عملية أكبر للولايات المتحدة إذا فرضت الظروف مواجهات عسكرية مستقبلاً، سواء مع روسيا أو الصين.

هذه المعايير فى التطبيق لا تعنى أنها حقّقت كل أهدافها، فما نراه اليوم أن ثمة سقفاً لم تتجاوزه، صحيح أن الضغوط والعقوبات الأمريكية تؤثر سلباً على المستهدفين، ولكنها لم تمحُ وجودهم ولم تدفع أحداً منهم إلى التراجع عن مصالحه القومية، ولم يتحول أى منهم للمعسكر الأمريكى، وباتوا كالحالة الإيرانية وفنزويلا وروسيا والصين نماذج لفقد التأثير الأمريكى عالمياً، وقدرة الشعوب على العيش، رغم العقوبات.

وبالنسبة للقوى الكبرى، فلديها الأساليب والأدوات للرد والالتفاف على تلك العقوبات وإفشالها ولو بعد حين.

ورغم إدراك محللين ومسئولين أمريكيين لهذه الحقائق، فلا تزال العنجهية السياسية تسود فى النهاية. وفى الأيام القليلة الماضية رأينا إلى جانب وصف الرئيس بوتين بالقاتل، تقريراً للمخابرات الأمريكية يتحدث عن تدخل روسى فى انتخابات الرئاسة 2020 لصالح الرئيس ترامب، وأنه سيتم محاسبة المسئولين الروس عن ذلك دون تقديم دليل حاسم، وتأكيدات بقرب توقيع عقوبات على المشاركين فى خط أنابيب «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسى إلى أوروبا، ومن بينهم أعضاء بارزون فى الناتو، مثل ألمانيا. إضافة إلى ضغوط كبيرة تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على دول العالم المختلفة لعدم استيراد لقاح «سبوتنيك» الروسى المضاد لفيروس «كوفيد - 19»، وضغوط أخرى تُمارس بعلانية لمنع أى أطراف تعتبرها الولايات المتحدة حليفة من استيراد أسلحة روسية متقدّمة، وبعضها يتفوق على المنظومات الأمريكية، وعادة ما تكون أقل سعراً وأقل تكلفة فى الصيانة الدورية، ناهيك عن تكثيف الدعاية الأمريكية والأوروبية السوداء بشأن حقوق الإنسان فى روسيا وحلفائها.

وهكذا، من يلاحظ المواقف التى أبداها الرئيس بايدن تجاه الصين وروسيا خلال الستين يوماً الماضية تحت شعار «المواجهات الدبلوماسية» لا يجد فرقاً جوهرياً كبيراً بين تلك السياسة وسياسة الرئيس السابق ترامب. ويكمن الفرق فى أسلوب الأداء لا أكثر ولا أقل. فبينما كان أسلوب ترامب معتمداً الزعيق اللفظى والتغريدات المتقلبة والألفاظ الفجة غالباً، نجد أسلوب الرئيس بادين هادئاً ولا يخلو من ثغرات، ربما لكبر السن، ولكنه يحمل المضمون ذاته فى «شيطنة» المنافسين والتأكيد على معاقبتهم والضغط عليهم لمنع صعودهم بما يفوق الوضع الأمريكى. وبالتالى فإن مبدأ «المنافسين المحتملين يهدّدون التفوق الأمريكى» هو المبدأ الجامع الذى لا يمكن التخلى عنه أمريكياً.

السؤال الذى يفرض نفسه: هل شيطنة روسيا مقدمة لشىء ما أكبر، أم أن الأمر يدخل فى باب الضغوط الدعائية التى تسبق مفاوضات صعبة حول إعادة رسم العلاقة بين الطرفين فى مجالات تخص العالم والطرفين معاً؟ إذا وجّه هذا السؤال للجانب الروسى، ومن خلال بعض التعليقات التى نُشرت فى الإعلام الروسى، يلاحظ المرء أن موسكو تنظر إلى سياسة بايدن وفق مؤشراتها الأولية باعتبارها عملية تستهدف توريط موسكو فى مواجهة مباشرة، غرضها الرئيسى استنزاف القدرات الروسية وتقزيم أى جهود داخلية لترقية القدرات الروسية تكنولوجياً وعسكرياً واقتصادياً. ويؤكد كثير من المحللين أن الرئيس بوتين يدرك الأمر جيداً، ولكنه يمارس سياسة تستهدف منع الانزلاق فى مواجهات وفقاً للسيناريو والتخطيط الأمريكى، ومن هنا تأتى تأكيدات المسئولين الروس بأن المواجهة الأمريكية الروسية ليست فى صالح أحد، وإبداء الاستعداد لتحسين العلاقات عبر الحوار، وفى الوقت ذاته الاستعداد للسيناريوهات الأسوأ، بما فى ذلك مواجهة نووية محدّدة قد تكون خارج النطاق الإقليمى للبلدين وتدور رحاها فى بلدان حليفة لكليهما أو لأحدهما.

سياسة الحذر الروسية واحتواء الضغوط، والرد بخطوات رمزية، لكنها ذات معنى كبير، مثل استدعاء السفير الروسى من واشنطن لغرض التشاور حول مستقبل العلاقة مع إدارة الرئيس بايدن، لا تعنى وفقاً للسوابق كما فى سوريا وأوكرانيا وجزيرة القرم، أن الرئيس بوتين لن يقوم بخطوة مفاجئة ترسل رسالة بأن روسيا ليست فى وارد السكون عن الفعل والانتظار إلى أن يبدى الرئيس بادين رضاءه عن روسيا ورئيسها.

بل هى بلد قادر على الفعل المضاد والاستباقى وفقاً لتقديراته الخاصة مكاناً وزماناً ومنهجاً. أسلوب المفاجأة معروف عن الرئيس بوتين، الذى يؤمن بأن الصمت وعدم الإفصاح عن النوايا لا يعنى عدم الحركة، بل هو مقدّمة لتحرّك مدروس يحبط أوهام الآخرين فى مهدها، ويدفعهم إلى إعادة حساباتهم كلياً.