«13 شارع النصر»: هنا يوجد أكبر مستشفى ميدانى

«13 شارع النصر»: هنا يوجد أكبر مستشفى ميدانى
«مستشفى رابعة العدوية»، لافتة حملت الكثير من الألم، لم يعد يلتفت إليها كثيرون من أهالى المنطقة المترددين على عيادتها بانتظام منذ إعادة فتحها، غير مبالين بما جرى منذ شهور قليلة بها، لا يعرف روادها كم عدد الجثث التى تراكمت فى طوابقها الأربعة، ولا يسأل أحدهم عن سر الوقوف الدائم لمدير أمن المستشفى فى مدخلها باستمرار، المستشفى الذى كان الشاهد الأكبر فى وقائع يوم الفض، أقسم أطباؤه بولاء جديد لـ«أبوقراط» ليحفظوا أسرار اليوم العظيم: «بعد إذنكم مفيش حد هنا عايز يتكلم فى حاجة وياريت تنسونا بقى»، يتحدث أحد أطباء المستشفى -الذى رفض ذكر اسمه- مؤكداً أن هذه الفترة من تاريخ عيادات «رابعة العدوية» لم يحن بعدُ وقت حكيها.

الإخوان تجاهلوا مطالب السكان وأقاموا المستشفيات الميدانية أسفل العمارات
الصمت الذى أحاط بمستشفى رابعة -أكبر المستشفيات الميدانية حينها- بعد عام من الفض، لم يستطع أن يفرض صوته على بقية المستشفيات الميدانية، فأسفل العمارة «13» بشارع النصر كان أكبر مستشفى ميدانى أثناء الاعتصام، رفض ساكنو العمارة وجود المستشفى أسفل العمارة لم يكن كافياً لإقناع المعتصمين؛ «اتخانقنا معاهم لكن مفيش فايدة، هما فرضوا سياسة الأمر الواقع على العمارة زى ما فرضوها على الميدان كله»، يتحدث إسلام عبدالعزيز، ساكن شقة فى عمارة أخرى فر أصحابها إلا 6 قرروا البقاء للدفاع عن منازلهم أمام الهجوم الإخوانى؛ «وجود المستشفى تحت بيتى خلانى أشوف حاجات ماكنتش أتوقع إنى أشوفها»، يحكى «إسلام» عن يوم فض آخر غير الذى شاهده الآخرون، فقد كان هو فى قلب المعركة يحمى من يستطيع حمايته وينقل الضحايا أولاً بأول إلى مدخل عمارته، لم يختفِ وراء شباك ولم تخفه أصوات الرصاص ليبحث عن مكان آمن: «أنا واخد على الاشتباكات والرصاص من أيام الثورة ومحمد محمود ومجلس الوزراء وأحداث بورسعيد والاتحادية». المستشفى الميدانى الذى اتسع لعدد ضخم من الأدوية اعتبره «إسلام» أضخم عدداً من أدوية عيادة «رابعة»: «الأدوية خرجت فى 4 سيارات إسعاف مملوءة عن آخرها». وسط محاولات حصر الأدوية وتغليفها كانت اللفافة الخضراء المغلقة بإحكام مثار تساؤل «إسلام» عن كنهها: «فتحتها لقيتها سلاح آلى ومعاه 3 خزن مليانة، ندهت اللواء الذى أوكل إلى أحد ضباطه مهمة تسلمها»، اللفافة الخضراء لم تكن الوحيدة فقد شهد حارس العمارة أنه شاهد المترددين على المستشفى فى بداية الفض يخرجون منها مسرعين وفى يد كل منهم «شنطة خضراء».

أدوات طبية ومعدات داخل المستشفى الميدانى فى «رابعة»
للفض حكايات أبت أن تفارق «إسلام» فى صحوه ومنامه، ليس آخرها السلاح الذى كشفه بنفسه أو ذلك الذى وجده جاره مخبأً فى إحدى الشقق التى احتلها المعتصمون أو حتى أنابيب الغاز التى وُضعت فى سيارات المعتصمين، بحسب شهادته، لتهدد المنطقة بأكملها: «تحت عمارتى انفجرت أنبوبتين، ولولا وجود عربيات إطفاء كانت ستكون كارثة». لم يكن الأمر سهلاً على الشاب العشرينى وهو يرى أحد المجندين الذين يتولون مهمة فض الاعتصام قد أتاه فى عمارته يتساءل عن شقيقه الذى خرج مع الإخوان وهو لا يعلم، وفوجئ باتصال الأسرة يوم الفض يخبرونه عن شقيقه؛ «جثة أخوه كانت موجودة ضمن الجثث اللى كنا بنحطها فى شقة التأمين الصحى، وسلمتها له بعد ما شفت بطاقته»، مواجع عديدة شاهدها «إسلام» قلَّبها عليه حلول الذكرى: «شفت واحد بيشيل الخضار للمعتصمين فى العمارة، كان متهيأ له إنه بكده هيطوّل مدة الاعتصام لكن اتقتل وهو شايل الخضار وماحدش شال همه». فى الشوارع الجانبية كانت المأساة مختلفة، بدأت فصولها مبكراً حينما رأت «أم محمد» الرجل «إياه» وجهاً لوجه، هذا الشخص الذى تسمعهم يلعنونه صباح مساء على شاشات الفضائيات، ها هو أمامها يزيح السيارات القابعة فى جراجها الصغير الذى استأجرت أرضه من الحى، ليقيم عليها «مراحيض الاعتصام»، لم تستطع وهى لا حول لها ولا قوة أن تتفوه بكلمة ولم يمهلها «الشيخ صفوت» فرصة الاعتراض. الجراج الملاصق لمستشفى رابعة العدوية «لقمة عيش» أم محمد ورجالها الخمسة، انتهى به الأمر إلى «مبولة الاعتصام»، أيام طويلة تتذكر «أم محمد» أفراحها وأتراحها، خناقات النهار التى تكاد تفتك بها وسط مئات من الإخوان الذين لا يقبلون نصائحها بالرحيل، ووجبات الإفطار والسحور التى كانت تنسيها هم النهار ورائحة البول التى لا تفارق أنفها. تمنعها العمرة التى عادت منها منذ أيام قليلة أن تتحدث بسوء عن أناس عاشرتهم أكثر من 40 يوماً «فصارت منهم وصاروا منها» كما علمتها الحياة: «الناس راحوا بحلوهم وشرهم مش عايزة أفتكر لهم حاجة وحشة، يكفى اللى حصل لهم»، أكرمها الله بعد وجودها فى الميدان أثناء الفض، ولكن طرقات على باب البيت أيقظتها فى صباح الأربعاء أفزعتها من «أحلى نومة» كما تتحدث: «جارتى صحتنى مفزوعة، ومفيش خمس دقايق كنت رايحة أطمن على ابنى لقيت التليفون بيرن؛ الحقى ابنك فى المستشفى».
لم تكن تعرف إلى أى مستشفى تذهب، هل استقبلوه فى «رابعة العدوية» أم ألقوه فى الشارع حتى تقضى عليه إصابته ويضاف رقماً جديداً فى أعداد الجثث التى شاهدتها فى التليفزيون قبل نزولها من المنزل، تليفون آخر أخرجها من حيرتها: «قابلينا عند معهد ناصر يا خالتى، مستشفى رابعة الجثث ملته ومحمد إصابته خفيفة»، اطمأن قلبها المرتجف على ابنها الوحيد الذى لم يأخذ بعد نصيبه من الدنيا: «لسه لا اتجوز ولا شاف دنيا كان هيروح فى شربة ميه»، رصاصة واحدة اخترقت ساقيه وأخرجتها عناية الله: «ربنا عالم بيَّا وعارف إنى مش حمل مرمطة ولا هقدر على دوخة المستشفيات».