«جلال عامر»

رامى جلال

رامى جلال

كاتب صحفي

تمر علينا غدا الذكرى التاسعة لرحيل الكاتب الساخر «جلال عامر».. تسع سنوات مرت على غياب الجسد دون أن يؤثر هذا كثيراً على بقاء الفكرة.

كثيرون رحلوا فى هذا اليوم، لكن كل يُغنى على ليلاه، فى مثل هذا اليوم أيضاً، رحل عن عالمنا: «إيمانويل كانت»، وجورج أبيض»، و«حسن البنا»، والثلاثة من الأعلام فى مجالاتهم: فلسفة المعرفة وفن المسرح وعلم الإجرام، على الترتيب.. لكن بالنسبة لى هذا اليوم هو فرصة للتأمل.

حاولت مرة، منذ سنوات، أن أضع تعريفاً لـ«جلال عامر» بأن كتبت وصفاً لكتاباته، من وجهة نظرى، ونشرته على شبكة الإنترنت، واكتشفت بعد رحيله أن كل معدى البرامج التليفزيونية بكل القنوات الأرضية والفضائية قد نقلوا وصفى الذى تحول فى وسائل الإعلام من اجتهادات إلى مُسلمات. ما كتبته كان كما يلى:

«ابتدع جلال عامر مدرسة جديدة فى فن الكتابة الساخرة تعتمد على التكثيف الشديد والتداعى الحر للأفكار، وطرح عدد من الموضوعات فى المقال الواحد، وربطها معاً بشكل غير قابل للتفكيك، بحيث تصير المقالة وحدة واحدة قوية التماسك. كما يتميز أسلوبه باحتوائه على الكثير من التوريات الجذابة التى تشد انتباه القارئ حتى نهاية المقال كما أنها تفتح مداركه على حقائق ربما غابت عنه».

بعد تسع سنوات، أجد أن ما كتبته أنا فى «ساعة صفا» هو أقرب ما يكون للحقيقة، لكننى أحب أن أطرح تعريفاً آخر أكثر تكثيفاً -مثل كتاباته- من واقع تعاليم أساتذة السخرية.. يرى بعضهم أن السخرية تبدأ حين يكتسب الشىء المضحك صفة الشىء الذهنى، لأن الفن من المهم أن يكون شكلاً ومضموناً معاً، أى إن السخرية يجب ألا تستهدف الإضحاك فحسب بل لا بد أن تقول فى الوقت نفسه شيئاً ما.. ويرى آخرون أن السخرية لا يمكن أن تدوم طويلاً إذا كانت ضد المبادئ، أو إذا استخدمت ضد الشعب.. إذن فالسخرية هى أن: «تقول شيئاً ما به مبدأ وأن تنحاز للشعب».

أظن أن هذا هو التعريف الأمثل لـ«جلال عامر»، الذى انحاز إلى جموع البسطاء ولُقب بـ«أمير الساخرين»، و«فيلسوف الغلابة»، و«الساخر الساحر»، وكلها ألقاب لم تكن تغريه، لكنها من الأمور التى تلتصق بالشخص رغماً عنه.. لم يسخر جلال عامر أبداً مما يُوجع الناس بل ممن أوجعهم، فلم يوجه قلمه ضد الفقراء، بل وضعه سلاحاً فى وجه من أفقرهم، ولذلك اصطدم بالسلطة ولم يكن بوقاً لها، ومُنع سنوات من الكتابة، لكن من حُسن حظنا أنه كان غزير الإنتاج فى أعوام عُمره الأخيرة.

مقالات «جلال عامر»، خصوصاً عموده «تخاريف»، كانت صفعة حنونة على الوجه، تجعل القارئ يفيق ويبدأ فى التفكير فى كيفية نجاح هذا الكاتب فى أن يستقبلك أول المقال ويوصلك إلى نهايته فى خفة وسلاسة يحسده عليها أمهر راقصى الباليه، وأظن أن هذا درب من دروب «المقال التحريضى» إن جاز لنا التعبير، لأنه لا يُغيب عقل المتلقى بل ينبهه إلى حقيقة واقعه ويدعوه إلى التغيير، ولكن بدون آفة «المباشرة». ولذلك صار جلال عامر أميراً للساخرين.

ومن أهم ما يميز «جلال عامر» هو الابتعاد عن المقدمات والوصول مباشرة إلى صلب المواضيع، فهو يُقدم لنا أكبر عدد من الأفكار فى أقل عدد من الكلمات. ولذلك، ورغم أن إمارة السخرية مترامية الأطراف، فقد استطاع جلال عامر أن يبسط سيطرته عليها، ويُخضع كل من فيها. عموماً لن تكفى المساحة لما يمكن قوله.. رحم الله من رحل عنا فجأة دون وداع.