ملاحظات عابر سبيل عن أحوال الكرة المصرية

لا أعتبر نفسى خبيراً فى شئون كرة القدم، وأعترف - منذ البدء - أن ثقافتى الكروية لا تؤهلنى أبداً للقطع فيها برأى، حتى اهتمامى باللعبة كان متقطعاً وتخللته فترات طويلة انصرفتُ فيها تماماً عن مشاهدة مباريات الدورى المصرى، واكتفيتُ ببعض الاهتمام العابر بمباريات المنتخب.

ولكننى فى فترات أخرى تورطت فى مشاهدة مباريات النادى الأهلى والمنتخب وخصوصاً فى المسابقات القارية والدولية.. وكثيراً ما خرجت من هذه الورطة نادماً على ما أصابنى من توتر وتعكير للمزاج، وشاعراً بخيبة أمل وإحباط شديدين!.

ومنذ فترة طويلة وطّنت نفسى على انتظار الأسوأ كلما ألمّت بى حالة كروية تدفعنى إلى متابعة مباريات الأهلى أو المنتخب، ولكننى فى النهاية مثل الملايين من المواطنين الذين قد يفقدون الأمل نظرياً فى الأهلى أو الزمالك أو المنتخب، ولكنهم ساعة الجد ينخرطون فى مشاعر جياشة تتمنى الفوز أو على الأقل الأداء الممتع والمشرف بغض النظر عن النتيجة، ولكن ساعات الجد تنصرم وقد طحنتنا خيبة الأمل ومرارة سوء الأداء مرة بعد أخرى.

قبل سنوات طويلة كنت أظن أن كرة القدم - وربما غيرها من الألعاب الأخرى - هى أحد ميادين المنافسة الأكثر شرفاً وطهارة، وأنه لا مجال فى الرياضة إطلاقاً للمجاملات أو الوساطة أو المحسوبية أو الفساد، وكان ظنى هذا قائماً على منطق شديد البساطة، هو أن الدفع بلاعب ضعيف إلى مباراة يشاهدها الملايين، لا بد أنها ستكشف ضعفه، فالصراع بين اللاعبين والأداء العلنى لكل لاعب لا يترك مجالاً أبداً لمثل هذه الأمور الفاسدة التى تحدث كثيراً - بل تكاد تكون هى القانون - فى مجالات أخرى.

ولكنى مررت بتجربة شخصية عام 2010 كشفت لى بداية عن نوع من الإهمال الإجرامى والفساد المستشرى فى مجال كرة القدم فى مصر، فقد كان ابنى مولعاً بكرة القدم منذ طفولته، وأمام إصراره على الالتحاق بأحد النوادى للاختبار ثم التدريب، أرسلته إلى نادى الترسانة ومنه إلى نادى الزمالك، ولكنه بعد عام كامل من التجربة أبلغنى أن المدربين لا يهتمون إلا بأشخاص محددين يعاملونهم بمنتهى اللياقة ويدفعونهم دفعاً إلى الأمام، ويسعون لتسجيلهم فى فرق الناشئين، وآنذاك سألتُ بعض زملائى المحررين الرياضيين عن صحة كلام ابنى، فأبلغونى أن الأمور تقريباً تحكمها الوساطة، أو تحكمها أمور أخرى بعضها لا يمكن قوله أو كتابته.

بعد قليل من التفكير والتردد، اتصلت بالكابتن حسن حمدى - وكان رئيساً للنادى الأهلى - وبحكم عمله فى الأهرام، ثم انتقاله للعمل معنا فى جريدة «الوطن»، كان يعرفنى مثلما أعرفه، وعرضت عليه موضوع ابنى، فما كان منه إلا أن اتصل بمدير الكرة فى النادى، ثم بالمسئول عن الاختبارات، وبعد ساعات جاءنى اتصال من مسئول بالنادى مرحباً ومهنئاً ومتمنياً لابنى أن يكون من أهم اللاعبين فى العالم، ولا أخفى عليكم أننى يومها عدت إلى البيت طائراً من الفرح، وواثقاً من أننى على وشك أن أصبح من كبار الأثرياء، وكلها سنوات معدودة وتنهال علينا عقود الاحتراف.

فى الصباح الباكر كنت مع ابنى فى النادى الأهلى بمدينة نصر، وإذا بى أفاجأ باستقبال شديد الفتور والعنجهية من شخص عاملنى بعداء شديد دون أدنى مبرر، ثم أخذ ابنى - بعد أن شخط فيه - وألقى به مع فريق ناشئين يكبره بعامين.. ويومها تمالكت نفسى بصعوبة، وفكرت كثيراً أن أتصل بالكابتن «حسن» لأخبره عن هذا الشخص الذى استقبلنى بعداوة، ولكننى آثرت أن أنتظر، وقلت لنفسى ربما كانت هذه الطريقة من أساسيات تحطيم «الأنا» داخل كل شخص يقترب من اللعب فى نادٍ كبير.

انتهى التدريب وعدت بابنى إلى البيت، ثم سارعت إلى عملى لأطالع ما فاتنى من أخبار، فإذا بى أجد الخبر الأكثر بروزاً على كل المواقع، وهو إحالة الكابتن حسن حمدى إلى جهاز الكسب غير المشروع فى قضية هدايا مؤسسة «الأهرام»!. اتصلت على الفور بالرجل فإذا به «خارج الخدمة»، فاتصلت بآخرين لأستوضح منهم ما حدث، وبعد ساعة أو أكثر تبين لى أن بعض العاملين فى النادى الأهلى فرحوا بهذا القرار، وأن الشخص الذى تعامل معى بجلافة لم يفعل ذلك إلا لأنه أيقن أن أيام حسن حمدى فى النادى أصبحت معدودة.

ورغم ذلك ظل هناك من استقبلونى باحترام، وحضرتُ عدة تدريبات مع ابنى فى النادى، ولاحظت أن اهتمام كل المدربين - عام 2012 - كان منصباً تماماً على شخص واحد ما زلت أحفظ اسمه، وهو ينتمى إلى عائلة مشهورة شديدة الثراء، وكان هو الأسوأ على الإطلاق من بين كل الأشبال الذين رأيتهم يتدربون معه، وفى المرة الأخيرة التى حضرت فيها التدريب مع ابنى، تجرأت وسألت أحد المدربين: لماذا كل هذا الاهتمام بشخص لن يجدى معه أى اهتمام؟. كل الذين يلعبون أفضل منه كثيراً، وهناك كثيرون لديهم موهبة واضحة جداً.. فلماذا تتركونهم وتهتمون فقط بهذا الشخص؟.. هل لأن والده وعائلته على درجة مفرطة من الثراء؟!.. ويومها أجابنى المدرب بجرأة شديدة: «إحنا أدرى بشغلنا يا أستاذ.. وماتنساش إن ابنك جه هنا برضه بالواسطة».. فأجبته على الفور: اهتمامك أنت وزملائك بـ«الشبل الثرى جداً» أكبر دليل على إنكم عارفين شغلكم كويس.. وأعدك أنك لن ترى وجهى ولا وجه ابنى مرة أخرى بعد اليوم.. بس ياريت تبقوا تسألوا عن الكابتن حسن حمدى فى محنته!

من يومها إلى الآن وأنا أنتظر ظهور «الشبل الصغير» فى أى فرقة من الفرق، ولكنه لم يظهر أبداً، والمثير أيضاً أن كل فرق الناشئين بالنادى الأهلى لم يخرج منها لاعب موهوب، وضاعت آلاف ساعات التدريب وملايين الجنيهات دون أن تنتج لاعبين أو محترفين، ولكن بالتأكيد أنتجت «منافع» أخرى للقائمين على هذه «السبوبة» الضخمة، بينما ذهبت مئات الملايين الأخرى فى صفقات شراء لاعبين من نوادٍ أخرى ومن دول أخرى، اتضح أيضاً أنها مجرد صفقات بيزنس، تسببت فى صناعة أثرياء كثيرين مثلما تسببت فى إفقار أكبر النوادى المصرية من اللاعبين الممتازين.

ويوم الاثنين الماضى كنت أشاهد مباراة النادى الأهلى مع بايرن ميونخ، ورغم معرفتى الأكيدة بالفارق الضخم بين مستوى الفريقين، فقد تورطت مرة أخرى - بدافع وطنى لا أكثر - فى انتظار أداء ممتع ومشرف، أداء رجولى يمنحنا قدراً من الإحساس بأننا على الطريق إلى اليوم الذى نصبح فيه أكثر كفاءة وأقل فساداً، وأننا سنصل حتماً إلى ما وصلت إليه دول كثيرة حول العالم، دول تنتمى إلى العالم الثالث مثلنا، يجتهد فيها المسئولون عن الكرة فى النوادى لاكتشاف المواهب فى الحوارى والقرى النائية، ويمنحونهم الدعم والتدريب والرعاية دون أغراض دنيئة، ولكننى بعد دقائق من بدء المباراة انتبهت إلى ورطة أخرى مخيفة، هى ورطة لاعبى الأهلى وقد وجدوا أنفسهم فى قلب معركة غير متكافئة من كل الوجوه: فلاعبو بايرن ميونخ على درجة فائقة من اللياقة والمهارة.. لا يوجد بينهم من انضم إلى النادى لأن هناك من يقتسم راتبه معه.. أو لأن هناك من تقاضى منه نصف ثمن شرائه.. ولا يوجد بينهم من استعبده مدرب مريض نفسياً فى فترات سابقة أو حالية.. ولا يوجد بينهم ذليل أو مُهان أو طرف فى صفقة فاسدة.

وفى المقابل جاء أداء لاعبينا بائساً ومهزوزاً إلى أقصى حد.. أداء مرتعش خائف ومنسحق.. لقد شاهدنا فأراً وجد نفسه فى حلبة صراع مع أسد.. كل ما يعنيه أن يخرج بأقل خسارة، وأقصى طموحاته أن لا يُهان، ولهذا كان شديد الحرص على عدم مناوشة الأسد، فلم يجرؤ لاعب واحد على محاولة اقتحام مرمى الخصم، فلربما أسفرت المحاولة عن هدف بالخطأ يدفع الفريق كله ثمناً باهظاً بسببه!.

قد يقول قائل: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.. وفريق الأهلى كان يدرك أنه أمام مباراة غير متكافئة من كل النواحى.. لأنه شتان بين الأهلى حالياً بإدارته ومسئولى الكرة فيه ومدربه، وبين «البايرن» وإدارته ولاعبيه، وهذا كلام صحيح إلى حد بعيد، ولكن عيبه المؤلم أنه يستبعد من المعادلة بلداً كبيراً اسمه مصر، ونادياً عظيماً وعريقاً اسمه الأهلى، وجمهوراً مدهشاً يستحق إدارة وصفقات ولاعبين أكثر نخوة ورجولة وطهارة!.