ميكانيكي بطرف واحد.. «فهد» فقد قدميه وذراعه: عايز ورشة متجهزة

كتب: سمر صالح

ميكانيكي بطرف واحد.. «فهد» فقد قدميه وذراعه: عايز ورشة متجهزة

ميكانيكي بطرف واحد.. «فهد» فقد قدميه وذراعه: عايز ورشة متجهزة

صغير خرج من بيته حاملا ألعابه في يده وعلى وجهه ملامح البراءة تحت أشعة شمس الظهيرة، قادته «شقاوته» إلى تسلق قطار قصب السكر المحملة عرباته بأطنان لا يعادل جسده النحيل مثقال ذرة منها، غير مكترث لتحذيرات المارة لخطورة فعله، بأنامل أصابعه تشبث جيدًا بإحدى المفصلات الحديدية الرابطة بين العربات من الخارج، مبتهجًا بنسمة هواء داعبته وكأنه طير يحلق بذراعيه، ولكن للطريق حسابات أخرى، فرملة مفاجئة للسائق لم يقوَ الصغير عليها سقط مغشيًا عليه من هول الكدمة وذهب في عالم آخر استفاق منه بجسد ممزق وعاهة لا ينضب شعوره بآلامها حتى اليوم.

تسلق قطار القصب وسقط على القضبان إثر توقف مفاجئ للسائق

في يوم لم يتذكر منه «فهد عبد الباسط» سوى برودته، وحين كان في السادسة من عمره، تشكلت حياته من جديد، قبل أن تبدأ ملامح وجهه وثنايا جسده حينها لا تشبه حاله الآن، صافرة إنذار دخول القطار العابر مسرعًا في موسم القصب الشهير بمحافظة الأقصرعلت في وضح النهار، إلا أن كلمة القدر كانت أعلى من صوتها، باغتته عجلات حديدية حادة لا تعرف الرحمة، وبالقرب من قريته «منشأة العماري» سقط الصغير والتحمت العجلات بالقضبان في لحظة توقفت عندها عقارب الساعة وسقط مغشيًا عليه، لم يعِ ما يحدث من حوله، حينها، صراخ نساء وهرولة رجال يحاولون إنقاذ جسده الذي كاد أن يتآكل كله على القضبان.

«القطر وقف مرة واحدة ضم على صدري فقدت الوعي ووقعت وعدى عليا حوالي 13 عربية وأنا بحاول أفادي نفسي جسمي كان بيتقطع»، بلكنته الصعيدية التي لايزال محافظًا عليها، بدأ الشاب البالغ من العمر 28 عاما يروي مأساته في بداية حديثه لـ«الوطن» بعد أن كان على شفا حفرة من الموت ونجا منه مبتور القدمين من أعلى الركبة ومبتور اليد اليسرى من المعصم، فتحول مشواره إلى كابوس لا تزال تفاصيله تلاحقه في أحلامه.

قضى 6 أشهر في مستشفى الأقصر العام للعلاج بعد بتر قدميه ويده اليسرى

اجتمع رجال القرية وحضرت سيارة الإسعاف مسرعة، محاولات لإنقاذ ما تبقى من جسد الصغير تحت عجلات القطار، كل ذلك يدور من حوله، لم يتذكر أي شيء من المشهد الحزين إلا صراخ الناس والآلام المبرحة التي فقد من شدتها الإحساس بجسده، وبحسب وصفه، استفاق ليجد نفسه وسط عشرات المرضى في مستشفى الأقصر العام، وبينما بدأ يبحث عن أطرافه استرجع ما وقع بالصباح وكان والده والأطباء من حوله يمهدون له ما حدث،«قعدت 6 شهور مقيم في المستشفى بتعالج، وحتى بعد ما خرجت البيت فضلت أتابع كل يومين على الجروح لمدة 3 شهور مكنش في حتة سليمة في جسمي»، بحسب وصف الشاب الأقصري.

سكن إيقاع الحياة من حول«فهد» لم يعد باستطاعته مشاركة أطفال قريته لعب الكرة وتسلق النخيل كما اعتاد من قبل، يختصر حزنه بنظرات لا يلحظها سوى أمه فتحتضنه لتخبئ عينيه الدامعتين عن الجميع، لم ييأس من مشوار المدرسة كل يوم بمساعدة الأهالي حتى أتم دراسة الصف الثالث بالمرحلة الإعدادية،«أهل القرية كانوا بيشيلوني للمدرسة ويرجعوني البيت وفضلت مكمل تعليمي وبروح على الامتحانات لحد الإعدادي واكتفيت إني بعرف أقرا وأكتب» واختار حينها البقاء في منزله كي لا يحمل الآخرين عبء تعليمه.

منذ 2011 اتجه لممارسة مهنة الميكانيكا مستخدما كرسي متحرك وعربة بعجلات أربع

أيام وليال ثقال يمضيها المراهق الصعيدي في بيته وسط إخوته الستة ووالديه، لا يملك حرفة ولا عملًا يناسب صحته، حتى جاءت انفراجة من رحم المعاناة،«أخويا اشترى موتسيكل سنة 2011 وكان بيوديه كتير عند الميكانيكي وبروح معاه لحد ما حفظت واتعلمت الشغلانة وحبيتها» فاتخذ قرارًا شجاعا بامتهان الميكانيكا في محيط معارفه كتجربة أولية لينجو بنفسه من شبح الفراغ والتفكير بين الجدران الأربعة.

مهارة، رغم ظروفه الصحية، وسرعة في التعامل مع المهام المطلوبة منه، أثبتها الشاب الصعيدي في عمله كمحاولة للتشبث بالحياة رغم مرارتها، قاوم وثابر ولم يجد أمامه عمل يناسب ظروفه الصحية سوى بيع الميكانيكا التي أحبها،«جسمي خفيف ومعايا مكنة بـ 4 عجلات بتحرك عليها وكرسي متحرك جوا بستخدمه وقت اللزوم جوا الورشة» لم يرهب التعامل مع مكونات السيارة أو الدراجة البخارية بيد واحدة، يستكمل حديثه بنفس النبرة الحازمة وباللكنة الصعيدية، «بعرف اتعامل كويس مع الزباين ومقبلش شفقة من أي حد».

أصابع يده اليمنى باتت سلاحه الوحيد الذي تبقى له من أسفل عجلات القطار، يتوكأ عليها في إصلاح أجزاء السيارات المعطلة، ويشير بها إلى مساعده في ورشته التي لاتتجاوز مساحتها بضعة أمتار قليلة، يرفض محاولات المارة والزبائن لإعطاءه صدقة بشدة، لم يطمح سوى في أن يحيا حياة كريمة بـ«عرق جبينه»،«هفضل أشتغل عشان ممدش إيدي لحد بس نفسي الحكومة تجهزلي ورشتي كويس عشان تناسب ظروفي الصحية»، بحسب وصفه لأمنيته.


مواضيع متعلقة