قومية اللقاح

أزمة سياسية كبيرة تبدو فى الأفق بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى فى الأيام الأخيرة.. أزمة سببها الرئيسى هو عجز شركة أسترازينيكا عن توريد حصة الاتحاد الأوروبى المتفق عليها من لقاح جامعة أوكسفورد الذى طورته وأنفقت على إنتاجه بريطانيا!

تأخر شركة أسترازينيكا سبب أزمة كبيرة فى دول الاتحاد الأوروبى للدرجة التى جعلت إسبانيا تعلن تأجيل مواعيد التلقيح لأسبوعين قابلين للزيادة.. مما يؤدى إلى تخبط فى خطة التلقيح الأوروبية كاملة!!

الاتحاد الأوروبى يحاول الضغط سياسياً على المملكة المتحدة -التى لم تعد عضواً فى الاتحاد منذ شهور- ليحصل على مخصّصاته من اللقاح على حساب مواطنى المملكة.. بينما ترفض الحكومة البريطانية الأمر بشكل قاطع، لتتمكن من إتاحة اللقاح لمواطنيها أولاً!!

الصورة برمّتها جعلت رئيس منظمة الصحة العالمية يعلن أن «العالم على شفا إخفاق أخلاقى كارثى»، واصفاً ما يحدث من الدول الغنية فى سياسات تخزين اللقاحات لمواطنيها، بينما تعانى دول فقيرة من عدم إمكان الحصول على أى جرعات فى القريب العاجل.. الطريف أن الأمر تطور إلى صراع بين الدول الغنية مع بعضها!

البعض لا يفهم حتى الآن أنه ما بين الترخيص باستخدام اللقاح وإتاحته لكل البشر مساحة كبيرة.. مساحة تصنعها غياب العدالة ومعايير الإنسانية فى توزيعه.. الدول الكبرى والغنية تستحوذ على القدر الأكبر من الإنتاج العالمى وتبقى الدول الفقيرة تعانى من نقص شديد أو حتى غياب كامل من على خارطة التلقيح العالمية..

الأزمة الأوروبية - البريطانية أفرزت مصطلحاً جديداً فى أروقة السياسة العالمية يُعرف بـ«قومية اللقاح»، أو بالمنظور الأقرب تأميمه!

لقد تمكنت بريطانيا حتى الآن من الانتصار فى معركتها السياسية مع الاتحاد الأوروبى لسبب واحد.. أن اللقاح بريطانى الجنسية.. ظهر وأنتج على أرض بريطانية.. فلا مجال لأى حقوق اقتصادية أو اتفاقيات حين يتعلق الأمر بصحة مواطن إنجليزى واحد!!

الصراع الحالى أثبت أن توسيع دائرة تصنيع اللقاحات فى العالم بدلاً من أن تكون حكراً على الدول الكبرى بات ضرورة استراتيجية.. وهو الحل الوحيد لعدد كبير من دول العالم التى ما زالت تنتظر دورها فى الحصول عليه.

هذا تحديداً ما قامت به الهند التى أعلنت منذ عدة أيام عن أكبر حملة تطعيم فى العالم باستخدام لقاحين، أحدهما تم تطويره وإنتاجه محلياً والآخر صناعة صينية.. بحيث تكون البلاد قادرة على تلقيح أكثر من 1.3 مليار من مواطنيها!!

فى مصر بدأت حملات التطعيم فى مستشفيات العزل والحميات منذ أسبوع أو يزيد قليلاً بلقاح صينى.. مع أنباء تفيد بوصول شحنات من لقاح أسترازينيكا الإنجليزى خلال هذه الأيام.. كل هذا جيد.. بل بمعايير الظروف الدولية وصراعات الحصول على اللقاح يبدو مثالياً.. ولكن ماذا بعد؟!

إن التوجّه نحو تصنيع اللقاح فى مصر أصبح أمراً حتمياً لتلبية الاحتياجات المحلية وتوفير اللقاح لكل الجمهور المستهدف، بدلاً من الانتظار لفترة لا يعلمها أحد!

المشكلة أن الأمر لا يبدو عسيراً إلى هذه الدرجة.. فمصر لديها من التكنولوجيا والخبرات البشرية والبنية التحتية ما يسمح لها بإنجاز هذه المهمة ببساطة.. خاصة مع تعطيل حقوق الملكية الفكرية فى أوقات الأوبئة، وفقاً لما أقرته اتفاقية التريبس الشهيرة!

توفير لقاح محلى فى مصر سيجعلها مركزاً إقليمياً لإمداد القارة الأفريقية كلها ومنطقة الشرق الأوسط.. وسيمنح الدولة المصرية مكانة مختلفة فى عالم ما بعد كوفيد!

إنتاج اللقاح محلياً وإتاحته للجميع وفق قواعد وأولويات شفافة هو الخيار الوحيد للانتصار فى أصعب معارك العصر الحديث.. أو هكذا أعتقد!!