في عيد الشرطة.. تحية لمن ضحوا كي نعيش

دراسة التاريخ وقراءته المتعمقة من أهم ركائز تقدم الدول وشعوبها، فلا حاضر ولا مستقبل لشعب غاب عنه تاريخه، خصوصاً إذا كانت صفحات هذا التاريخ تحمل من البطولات والتضحيات ما يدعو للعزة والفخر، وإحدى صفحات التاريخ للدولة المصرية ما يطلق عليه معركة الكبرياء والكرامة الوطنية التى سطرها أبطال الشرطة المصرية بمحافظة الإسماعيلية فى الخامس والعشرين من يناير سنة ١٩٥٢، حيث كانت منطقة القناة تحت سيطرة القوات البريطانية بمقتضى اتفاقية 1936، والتى نصت على أن تنسحب القوات البريطانية إلى محافظات القناة فقط دون أى شبر فى القطر المصرى، فلجأ المصريون إلى تنفيذ هجمات فدائية ضد القوات البريطانية داخل منطقة القناة كبّدتها خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة، وكان الفدائيون ينسقون مع رجال الشرطة لشن هجمات فعالة وقاصمة ضد القوات البريطانية، وهو ما فطن له البريطانيون، حيث قاموا بترحيل المصريين الذين كانوا يسكنون الحى البلدى فى الإسماعيلية، بينما كانوا هم يسكنون الحى الأفرنجى، وذلك للحد من عملياتهم البطولية ضد قواتهم، ولكن ذلك لم يؤثر على الفدائيين، وزادت هجماتهم شراسة، وذلك بالتنسيق مع قوات الشرطة المصرية.

وعندما فطنت القوات البريطانية إلى أن رجال الشرطة يساعدون الفدائيين، قررت إبعاد جميع أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة، على أن يكون ذلك فى فجر يوم 25 يناير 1952، وفوجئ رجال الشرطة، بعد وصولهم إلى مقر عملهم فى مبنى محافظة الإسماعيلية، بقوات الاحتلال البريطانى تطالب اليوزباشى مصطفى رفعت، قائد بلوكات النظام الموجودة بمبنى محافظة الإسماعيلية، بإخلاء مبنى المحافظة خلال 5 دقائق، وترك أسلحتهم داخل المبنى، وحذروهم بمهاجمة المبنى فى حالة عدم استجابتهم للتعليمات.

رفض اليوزباشى مصطفى رفعت الانسحاب وترك مبنى المحافظة، وقال لقائد قوات الاحتلال «إكس هام»: (إذا أنت لم تأخذ قواتك من حول المبنى.. سأبدأ أنا الضرب، لأن تلك أرضى، وأنت الذى يجب أن ترحل منها ليس أنا.. وإذا أردتم المبنى فلن تدخلوه إلا ونحن جثث»، ثم تركه ودخل مبنى المحافظة وتحدث إلى جنوده وزميله اليوزباشى عبدالمسيح، وقال لهم ما دار بينه وبين «إكس هام»، فما كان منهم إلا أن أيدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال على الرغم من عدم التكافؤ الواضح فى التسليح؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات والأسلحة المتطورة، بينما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة الطراز.

وبدأت المعركة من خلال قيام القوات البريطانية بإطلاق قذيفة دبابة أدت إلى تدمير غرفة الاتصال «السويتش» بالمبنى، وأسفر ذلك عن استشهاد عامل التليفون، لتبدأ المعركة بقوة، والتى شهدت فى بدايتها إصابة العشرات من رجال الشرطة واستشهاد آخرين، فخرج اليوزباشى مصطفى رفعت، قائد قوة بلوكات النظام الموجودة داخل مبنى المحافظة، إلى ضابط الاحتلال البريطانى فى مشهد يعكس مدى جسارة وشجاعة رجل الشرطة المصرى، فتوقفت الاشتباكات ظناً من قوات الاحتلال أن رجال الشرطة سيستسلمون، ولكنهم فوجئوا بأن اليوزباشى مصطفى رفعت يطلب الإتيان بسيارات الإسعاف لعلاج المصابين وإخلائهم قبل استكمال المعركة، ولكنهم رفضوا واشترطوا خروج الجميع أولاً والاستسلام، وهو ما رفضه اليوزباشى مصطفى رفعت، وعاد إلى جنوده لاستكمال معركة الشرف والكرامة، والتى لم يغب عنها أيضاً أهالى الإسماعيلية الشرفاء، حيث كانوا يتسللون إلى مبنى المحافظة لتوفير الغذاء والذخيرة والسلاح، رغم حصار دبابات الاحتلال للمبنى.

ومع استمرار الاشتباكات، بدأت الذخيرة فى النفاد من رجال الشرطة المصرية، ولكنهم رفضوا أيضاً مجرد فكرة الاستسلام، فقرأوا جميعاً فاتحة كتاب الله والشهادتين، وقرروا القتال حتى آخر طلقة، وقرر اليوزباشى مصطفى رفعت الخروج من المبنى لمواجهة قائد قوات الاحتلال (إكس هام) أملاً منه فى أن يؤدى ذلك إلى فك الحصار وإنقاذ زملائه، وعندما خرج توقف الضرب، وفوجئ بضابط آخر أعلى رتبة من (إكس هام)، وبمجرد أن رأى هذا الضابط اليوزباشى مصطفى رفعت أدى له التحية العسكرية، فما كان من اليوزباشى رفعت إلا أن بادله التحية، وتبين بعد ذلك أن ذلك الضابط هو الجنرال ماتيوس، قائد قوات الاحتلال البريطانى فى منطقة القناة، وتحدث الجنرال ماتيوس إلى اليوزباشى مصطفى رفعت، وقال له إنهم فعلوا ما عليهم بل أكثر، وإنهم وقفوا ودافعوا عن مبنى المحافظة ببطولة لم تحدث من قبل، وإنهم أظهروا مهارة غير عادية باستخدامهم البنادق التى معهم ووقوفهم بها أمام دبابات وأسلحة الجيش البريطانى المتعددة، وإنه لا مفر من وقف المعركة بشرف، فوافق اليوزباشى مصطفى رفعت على ذلك، مع الموافقة على شروطه؛ وهى أن يتم نقل المصابين والإتيان بالإسعاف لهم، وأن الجنود حين يخرجون من المبنى لن يرفعوا أيديهم على رؤوسهم وإنما سيخرجون بشكل عسكرى يليق بهم، فوافق الجنرال ماتيوس على تلك الشروط، وخرجت قوات الشرطة بشكل يليق بها.

لقد أسفرت تلك الملحمة التاريخية للشرطة المصرية، التى لم ولن ينساها التاريخ، عن استشهاد نحو 50 من رجالها وإصابة 80 آخرين، فاستحقت أن تكون عيداً للشرطة المصرية.

يأتى هذا العيد هذا العام وما زال رجال الشرطة المصرية يستكملون كتابة صفحات هذا التاريخ المشرف بتضحياتهم واستشهادهم بجوار إخوانهم من رجال الجيش الوطنى المصرى لكى تحيا مصر وشعبها فى أمن وسلام، ما زالت تروى حبات رمل هذا الوطن بدمائهم الطاهرة حماية للأرض والعرض، هذا بالإضافة إلى جهود جهاز الشرطة لحماية الأمن الداخلى ووقاية المصريين من أشرار الداخل من جالبى المخدرات ومروجيها وحماية شبابنا من شرورها ومواجهة الخارجين على القانون.

فى عيد الشرطة لا أملك كمواطن إلا أن أعبر بكلماتى عن شكر المصريين وتقديرهم واعتزازهم برجال الشرطة وتضحياتهم.. دمتم حماة لمصر وشعبها مع جيشنا الوطنى العظيم..