«بر وعقوق» الوالدين بمستشفيات العزل: مشاهد لا تنسى في ذاكرة الأطباء

كتب: سمر صالح

«بر وعقوق» الوالدين بمستشفيات العزل: مشاهد لا تنسى في ذاكرة الأطباء

«بر وعقوق» الوالدين بمستشفيات العزل: مشاهد لا تنسى في ذاكرة الأطباء

عجوز انحنى ظهره يصارع الموت بمفرده بعد أن تركه أبناؤه وحيدًا، فارين من الوباء، ليأتي بمفرده يستغيث بالأطباء للعلاج بعد تواصله مع الخط الساخن بوزارة الصحة، وآخر نقيضه؛ يلتف أبناؤه حوله، تغلبهم دموعهم، ويصرون على البقاء معه، وسط توسلات للأطباء للسماح لهم بذلك الممنوع، مشاهد سجلتها مستشفيات العزل، المخصصة لحالات «كورونا»، فبعضها يُظهر الجحود، محققا ما قاله رسول الإسلام عن عقوق الوالدين في نهاية الزمان، وفق حديث «أن تلد الأمة ربتها»، بينما بعضها الآخر يُشير لأسمى درجات الحب، لتظل مشاهد لا تنسى في ذاكرة أطباء كورونا، ربما ستظل تراودهم حتى في أحلامهم.

الدكتورة أسماء النمر، إخصائي أمراض الصدر والدرن بمستشفى العباسية، لا تزال ذاكرتها تمتلئ بلحظات استقبال المصابين وقت «النوبتجية» الخاصة بها، وأصعبها ما يتعلق بمرضى الزهايمر والأمراض المزمنة المستعصية، من مصابي كورونا، فهم أكثر الأشخاص الذين يرفض ذووهم تركهم في العزل خوفا عليهم، لتقع الطبيبة حائرة بين مشاعرها وما يحتمه عليها واجبها الطبي بمنع مرافقة مرضى «كوفيد 19».

مشاهد الوداع على باب العزل ومواقف جحود الأبناء

والأمر قد يتطور أحيانا إلى «خناقة» حسب وصف الطبيبة الثلاثينية، في حديثها لـ«الوطن»، رغم تأثرها الشديد ودموعها التي تغلبها في بعض الأحيان، إلا أن واجبها هو منع أي مرافق لمريض من دخول العزل، مهما كانت ظروفه الصحية، «ماقدرش أوافق ده ممنوع وأحيانا بتقلب مشكلة مع أهل المريض رغم إني أوقات دموعي بتنزل من الموقف».

وفي مشهد لا تزال تنتفض الطبيبة الثلاثينية منه كلما مر طيفه على  ذاكرتها، كان في إحدى ليالي الصيف الخانقة، عندما انهمرت دموع فتاة خوفا على والدها المصاب بكورونا، «عيطت وكانت خايفة تمشي وتسيبه لوحده»، أما أكثر المشاهد التي تجعل دموع طبيبة الصدر تنزل على الفور، فتتعلق بلحظة الوداع التي تدور بين المرضى وأهاليهم على أبواب «العزل»، فضلا عن تسجيلها أيضا مشاهد الجحود التي تتمثل في عجوز يأتي بمفرده للعلاج بعد أن فر منه أبناؤه خوفا على حياتهم.

لحظة إبلاغ الشخص بحقيقة إصابته بكورونا بعد الكشف عليه

حالات الموت المفاجئ بين كبار السن خاصة، أكثر ما يترك أثرًا حزينًا في نفس الدكتور إسلام الديب، إخصائي مكافحة العدوى بمستشفيات وزارة الصحة، مؤكدا أن الوفيات تحدث بسبب عوامل التجلط التي يتسبب فيها الفيروس، «بيوصلوا المستشفى وقلبهم واقف فجأة، وأهلهم مرعوبين عليهم»، يقول في بداية حديثه لـ«الوطن».

ودائمًا ما يجد «الديب» صعوبة في إبلاغ المرضى بحقيقة إصابتهم بفيروس كورونا، خاصة الحالات التي يبدو عليها الإنكار التام، وليست حالات الموت المفاجئ هي وحدها التي تؤثر في نفس الطبيب الثلاثيني، فحسب وصفه، «أصعب حاجة توصل للناس معلومة إن اللي عندهم ده كورونا أو اشتباه كورونا»، محاولات التمهيد لهم بطريقة مبسطة وابتسامة تهون عليهم الخبر، بينما يواصل بعضهم حالة إنكار المرض»، بحسب تعبيره.

امتناع المريض عن الأكل والدخول في حالة اكتئاب

مشاعر الخوف التي تُسكت ألسنة المصابين وأسرهم، هي أكثر ما يؤثر في نفس الدكتور حسين السيسي، أستاذ القلب والحالات الحرجة بمستشفى قها للعزل بالقليوبية، وحسب روايته لـ«الوطن» فبعضهم يدخل في حالة اكتئاب، خاصة لو كانت أسرة كاملة مصابة، وهنا قد يواجه الطبيب صعوبة في مساعدة المريض على الخروج من تلك الحالة النفسية.

«ممكن المريض يرفض الأكل وده مش بيساعدنا في علاجه»، يواصل طبيب القلب بمستشفى قها لعزل مصابي كورونا، حديثه عن المواقف الصعبة التي تواجهه خلال «النوبتجية» في العزل، الأمر الذي يتطلب جهدا مضاعفا منه لدعم المريض نفسيا لتخطي تلك الحالة النفسية. 

صورة تجسد تعب 24 ساعة شغل متواصل

وفي مارس الماضي، ومع بداية أزمة فيروس كورونا، انضمت سامية محمد حسن، أخصائي كيميائي بمستشفى العزل قها المركزي بالقليوبية، إلى الفريق المكلف بالتعامل مع مصابي فيروس كورونا، الذين يُجرى حجزهم بعد التأكد من إيجابية تحاليهم، ولم تكن تتخيل في بداية الأمر حجم المهمة التي أُسندت إليها، «شغالة من 2012 ومكنتش متخيلة إن الموضوع كبير كده مكنتش بعرف أنام ساعة على بعض على مدار الـ24 ساعة»، تقول الطبيبة الثلاثينية في بداية حديثها لـ«الوطن».

وبعد ساعات من التجول تجلس «سامية» لتريح قدميها على مقعد يقع على قارعة ممر جانبي يفصل غرفات المستشفى خلال مرورها على المرضى لأخذ عينات المسحات الخاصة بهم، يغالبها النوم بغتة فتُغمض عينيها في غفوة لم تتجاوز العشر دقائق، في مشهد يعكس بطولة خفية تشهد عليه أرجاء مسشتفى «قها للعزل»، وثقته «كاميرا» الهاتف المحمول ممرضة مشرفة مرت صدفة عليها، «مع ضغط الشغل كنت مبعرفش أنام ممكن يجلي 50 مسحة في اليوم، سندت راسي ثواني فرحت في النوم وصورتني ممرضة كانت مشرفة الدور وقتها».

تبكي لإخفاء نبأ وفاة مريض على أهله

مواقف إنسانية يكاد أن ينفطر من صعوبتها الحجر، واجهتها طبيبة التحاليل خلال فترة عملها بالموجة الأولى والموجة الثانية من الجائحة، حيث تتذكر منها استقبال المستشفى عائلة كاملة مصابة بفيروس كورونا، فـ«الأب والأم» تم إيداعهما العناية المركزة، و«الأبناء والأحفاد» في غرف عادية لاستقرار حالتهم، «كان كل يوم الأولاد والأحفاد يسألوني عن جدهم وجدتهم وخايفين عليهم»، حتى لفظ الجد أنفاسه الأخيرة في العناية واضطرت هي لإخفاء الخبر عن زوجته العجوز، «خفت على حالتها النفسية وخبيت عليها وعلى الأحفاد وقعدت أعيط».

وأكثر ما يثير دموع الطبيبة الثلاثينية في سكون الليل وحين يخلد المرضى للنوم وتباشر فحص العينات تحت المجهر داخل المعمل، هو حرمانها من رؤية ابنيها أكثر من أسبوعين، إذ تسترق من الزمن دقائق قليلة لسماع صوتهم عبر الهاتف، الذي يطمئن قلبها قليلًا قبل أن تعاود ممارسة مهام عملها، «لما بيوحشوني بطلع صورهم على الموبايل وأبص عليها وأصبر نفسي»، وبحسب روايتها، رفضت الإجازات لرغبتها في المشاركة في المهمة الإنسانية حتى يزول الوباء.


مواضيع متعلقة