وحيد حامد.. الذي فَهِمَنا جميعاً

وحيد حامد لم يكرس أعماله ضد الإسلاميين، هذا انتقاء «اللى على راسه بطحة». فالرجل الذى كتب ملحمة «طيور الظلام» هو ذاته الذى كتب مسلسل «البشاير» حيث الكوميديا الصارخة التى لا تقل فى بهجتها عن خفة ظل فيلم «غريب فى بيتى».. وهو الرجل الذى كتب معزوفة إنسانية عذبة وشجنة وفلسفية وشفيفة مثل «الإنسان يعيش مرة واحدة».

وحيد حامد فهم الإسلاميين.. استوعبهم مبكراً، وبالتوازى قدم السُلطة والنظام السياسى والمواطن.

بالأحرى.. استوعب «حامد» المجتمع المصرى بمكوناته وأدرك العلاقات التى تربط الجميع ببعض، ومن هنا تولدت «الدراما».

ما أدركه «حامد» فى الحياة، أعاد إنتاجه درامياً، وما أنتجه درامياً -فى مفارقة عجيبة- أعادت إنتاجه الحياة الواقعية مرات ومرات، فى رد جميل غير متوقع، المسئول عند وحيد حامد يمكن فهمه فى شخصية وزير الداخلية التى أداها الراحل كمال الشناوى فى فيلم «الإرهاب والكباب».

رباطة جأش كاذبة، وسط مشورات فاشلة وفاسدة ومتعجرفة من مساعدين أغبياء. ثم فى لحظة الحسم، فهو مستعد لسحق الجميع من أجل بقاء «الهيبة» و«المنصب». وهو وزير الصحة (نظيم شعراوى) فى فيلم «النوم فى العسل».. حيث الإنكار والتلامة والمزايدة وترديد الديباجات السخيفة عن «المغرضين الذين لا يحبون الوطن ويشوهون الحقائق ويشيعون الأكاذيب». وهو من هو فى «معالى الوزير».. حيث دسائس القصور وألاعيب الفساد وحيث كل ما لا يمت للاستقامة بصلة، حتى إن أحمد زكى فى معالى الوزير كان فى شبابه مخبراً للمباحث.. وكتب تقارير ضد زوجته.

القبح الذى أبصره وحيد حامد فى الإسلاميين.. كان عبارة عن تقليب من عين حصيفة لجثمان متعفن، وليس تحاملاً عليهم أو تسليطاً للضوء على عوراتهم مع غض الطرف عن الباقين.

ففى «المنسى».. يرصد «حامد» رجل الأعمال المستعد للتفريط فى شرف زوجته من أجل إتمام صفقة، ولا يرى فى هذا ضيراً.

لقد جلد «حامد» الجميع بعدالة شاعرية مدهشة، ولم ينتصر إلا للمواطن المصرى، «أبوالمعاطى شمروخ» الفلاح الذى سافر الخليج وعاد لزراعة الأرض مرة أخرى فى «البشاير»، وأحمد فى «الإرهاب والكباب» الموظف البسيط الذى وجد نفسه فجأة مسئولاً عن اختطاف رهائن فى المجمع وهو لا يريد سوى العيش كآدمى.. لا أكثر ولا أقل.

حتى عشر سنوات مضت، كنت أخال وحيد حامد يخلط بين الإسلاميين وطوائفهم وجماعاتهم، وكنت أحسب كتاباته لا تجيد التفريق بين الجهادى والسلفى والإخوانى والتكفيرى.

ففى «طيور الظلام» تتداخل السلوكيات وتختلط المعتقدات فى تصرفات شخصياته، حتى يبدو الإسلامى على الشاشة هجيناً من تيارات مختلفة لا تكاد تعرف معها من بالضبط الذى يقصده وحيد حامد فى أعماله.

لكن فيما بعد اقتنعت بأن «حامد» امتصّ ظاهرة الإسلاميين بأطيافهم واعتصرها وأعاد إنتاجها. والإخوانى عنده الذى يسلك مسلكاً جهادياً خفياً ويتبنى قناعات سلفية متطرفة، هو عبارة عن معنى أراد «حامد» إيصاله بمكر بالغ: كلهم سواء.

شخصية رياض الخولى فى «طيور الظلام» هى مزيج من عدة شخصيات نعرفها فى الحياة العامة وشاهدناها.. وقد دمجها «حامد» ببراعة الحكّاء وعبقرية السينارست فصارت مسخاً كمسخ فرانكشتاين.

هو يقصد هذا بالضبط.. الرجل ليس باحثاً فى مركز دراسات.. بل فنان يطوّع الأشخاص والأحداث والأزمان ويعيد إنتاجها مصبوغة برؤيته هو.

وحيد حامد لا يكتب «مانفيستو» سياسياً.. رغم انغماسه بالكلية فى السياسة ورغم تسييسه حتى لأبسط الظواهر.

ففى فيلم «آخر الرجال المحترمين»، يوصى المعلم (على الشريف) بإعادة حقيبة إلى صاحبها بعدما سرقها أحد أتباعه.. حين علم أن المسروق «قاضٍ» ثم أوصى بكتابة آية كريمة على الورق للقاضى: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، ثم أردف «رجعهاله مش ناقصين نأخر قضايا الناس أكتر ما هى متأخرة»، وحيد حامد الذى كتب كل هذا هو الذى كتب فيلم «الغول» بكل ما فيه من شجن إنسانى وتساؤلات فلسفية حول الماهية والمصير وأسئلة الذات الكبرى.. الذات الشريفة المجروحة دوماً.

لقد فهمَنا وحيد حامد وكتب عنا جميعاً.. لكن الإسلاميين كالمعتاد «قطهم.. جمل»، ويرون العيب فيهم عيباً فى ذات ملكية لا مساس بها.. أما الآخرون فمجانيون.

رحم الله وحيد حامد بقدر ما أرانا أنفسنا فى المرآة.. فأبصر معظمنا وعمى آخرون.