السادات.. بطل تراجيدي
هل الرئيس السادات خائن (لا سمح الله)؟ هل هو بطل؟ بين هذين السؤالين دار صراع كبير شكل جزءاً لا بأس به من الحياة السياسية المصرية طوال سنوات الثمانينات والتسعينات وربما حتى الآن.. ورغم وجود ميل لدى الدولة المصرية لإنصاف الرئيس السادات فإن هذا الميل يتعارض مع موقف الدولة القائم على المواجهة الشاملة والكاملة مع جماعة الإخوان وتيارات الإسلام السياسى بشكل عام، فالسادات هو الذى أعاد إحياء الجماعة، وهو الذى ترك لها حرية الحركة.
والحقيقة أن الرئيس السادات كان شخصاً وطنياً وفق فهمه للوطنية، وقد كان سبّاقاً فى بعض أوجه هذا الفهم، والحقيقة أيضاً أنه لم يكن بطلاً بالمعنى المطلق، ولكنه كان بطلاً بالمعنى التراجيدى أو المأساوى.. هذا البطل يصفه أرسطو بأنه (شخصية محورية لها قدر مأساوى أو خلل مميت يقودها فى النهاية إلى حتفها).. والحقيقة أن صفة البطل التراجيدى لا تنطبق على أحد فى تاريخ مصر، بقدر ما تنطبق على الرئيس السادات، أما الخطأ المحورى الذى ارتكبه فهو تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين، وإخراجه لقادتها من السجون، وسماحه لها بالحرية المطلقة فى الشارع، لدرجة أنه يكاد أن يكون قد سلمها للشارع المصرى كله، وسماحه لها بتلقى التمويلات الخارجية هى وربيبتها الحركة السلفية، وهى تمويلات يمكن تقديرها بمئات المليارات من الدولارات إن لم يكن أكثر.
وكان أخطر ما ارتكبه الرئيس السادات واستمر فى عهد سلفه مبارك هو السماح للجماعة بإعادة صياغة التاريخ المصرى بشكل يضرب فى شرعية ثورة يوليو، التى لم يكن يستند إلى سواها فى حكمه، فكان كمن سمح لخصمه بهدّ أساسات البيت الذى يسكنه، لأنه يكره أحد جيرانه، وكواحد من مواليد السبعينات، فقد درجت على قراءة أعداد كبيرة من الكتب التى صاغها الإخوان، كانوا يصفون فيها قضايا مثل ١٩٥٤ و١٩٦٥ بأنها محض تمثيليات ألفتها أجهزة الأمن ضدهم وأنهم أبرياء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا أظن أن المعلومات الحقيقية حول هذه القضايا، والتى تكشف تورط الإخوان واعترافاتهم صارت متاحة إلا بعد قيام ثورة ٣٠ يونيو، امتدت مواصفات المأساة فى حياة السادات لتشمل صفة أخرى من صفات البطل التراجيدى، وهى (إدراكه لخطئه وإدراكه أنه سيقوده لنهايته)، حيث ارتكب الرئيس السادات خطأً آخر على مستوى الشكل، وهو إخراج زيارته إلى القدس بالشكل المسرحى الذى خرجت به، ولم يكن الخطأ فى التوجّه نحو السلام، ولكن فى الطريقة التى اختار بها السادات أن يخرج بها المسألة، وخسارته للتأييد العربى، ثم قيام الثورة الإيرانية، واعتقاد الإخوان الانتهازى أنهم يمكن أن يقودوا ثورة على النمط نفسه فى مصر، فكان تنكرهم للسادات، وإحساسه بالمرارة من نكرانهم لجميله، وقيادتهم للمعارضة ضده (ربما استجابة لغضب دولة عربية كبرى كانت تمولهم)، ولعل خطابه الأخير فى مجلس الشعب كان تجسيداً لهذه المرارة مأساوية الطابع، والتى تكشف عن طابع ريفى للرئيس السادات.
ففى الوقت الذى كان فيه قرار اغتيال السادات قد اتُّخذ تقريباً فى تنظيمات خارجة من عباءة الإخوان نجد السادات يقول للناس إنه كان ينوى ضم مرشد الجماعة لعضوية مجلس الشورى باعتباره مجلس الأسرة المصرية!! أو يشهد الناس على بذاءات الداعية الإخوانى أحمد المحلاوى ضده، قائلاً (بيتعرض لى أنا وعيلتى)! أو يستعرض تشكيك الإخوان فى ثورة يوليو كلها ووصفها بأنها مؤامرة أمريكية وهو يكاد يبكى! الحقيقة أن الرئيس السادات شخصية ثرية ودرامية، وهو ينطوى على كثير من التناقضات، فهو ضابط وطنى يعجب بالنازية ويشارك فى ثورة قام بها الجيش، ثم يتولى الحكم فيقرر إقامة ديمقراطية محسوبة، لكنه يطلق تياراً دينياً كان محبوساً ويضرب التيارات الليبرالية واليسارية، وتكون نتيجة هذه الخلطة العبثية أن يتحالف الجميع ضده، وأن يقود الإخوان تحالفاً غير معلن من الوفد والتجمع والعمل ويشعلوا الشارع ضده.. وهى مأساة أخرى من مآسى النخبة المصرية.
وللحق فقد امتاز جمال عبدالناصر بقدرته الاستراتيجية على تحديد أعداء الدولة المصرية ووضعه لجماعة الإخوان على رأس هؤلاء الأعداء، وهو ما فعل عكسه الرئيس السادات الذى ألغى أهم عدوين للدولة من قائمة أعدائها (الإخوان وإسرائيل)، وقد دفع ثمن كليهما مثل كل بطل تراجيدى نعيد له حقه بدراسة عهده وفهم أخطائه والتوقف عند مزاياه وليس بأى شىء آخر.