مراجعات «التموين».. رطوبة أم «طراوة» فى استيراد القمح؟
يمر العام ما بين منتصف نوفمبر ومنتصف يوليو سنوياً، دون أن يصدر عن الحكومة المصرية قرار يُعلى من شأن القمح المصرى، ويجفف عرق زارعيه بطراوة الربح، حتى بات الاهتمام به أقل مما يوفيه حقه، كصاحب أكبر نصيب من فاتورة غذاء المصريين.
لم يطلب الفلاح منذ أكثر من 10 أعوام سوى إعلان مبكر لأسعار توريد القمح، وذلك قبل زراعته بشهر واحد على الأقل (أى فى أكتوبر من كل عام)، حتى يتوافر أمامه خيار زراعته، أو البعد عنه بغنيمة محصول شتوى آخر كالبرسيم، أو تأجير أرضه لمزارعى الخضار، هرباً من الخسارة.
وغالباً، لا يُمسِك الفلاح دفتراً وقلماً، لحساب ما ينفقه على أرضه، وما يحصده منها بنهاية «الزَّرْعة»، لكن مع استمرار حالة «انعدام الفائض» فى بيته وخزائنه، تبين له أن أرضه لم تعد تساوى «العرض» عنده، ما دامت تتسبب فى كشف ستره، وخواء ماعونه، وإفقار «طبلية» الوجبة العائلية فى داره.
وفى كتاب القمح المصرى، ما يغم النفس، فلم يطلق الفلاحون المصريون اسم «الغلّة» إلا على القمح، وفى بعض مناطق الصعيد، تُشاركه فى هذا الاسم: الذرة أيضاً «الرفيعة» و«الشامية»، وقد لا يعرف أحدهم أنها تسمية اقتصادية لإنتاجية جميع الحاصلات الزراعية، وقد سبقت القمح فى التحول الكلى إلى العلف الحيوانى، بعد أن كانت الذرة تحظى بصناعة الفطيرة المفضلة فى بيوت الفلاحين.
ولارتباط القمح برغيف العيش عند المصريين، يحرص جميع الفلاحين على امتلاك رصيد منه فى صوامعهم الخاصة، «حبوب» أو «طحين»، سواء إنتاجية خاصة من زراعة أيديهم، أو شراءً بالتبادل السلعى المتعارف عليه فى «مزاملة» المجتمع الريفى، والتى وصفها ابن خلدون بأنها أول طريقة للتبادل التجارى بين بنى الإنسان (المبادلة السلعية)، وذلك قبل اكتشاف العملة.
ورغم يقين الحكومة بأهمية القمح لمصر والمصريين، وارتباط حصاده تاريخياً بعيد لا يقل عن عيدى الفطر والأضحى، يصر وزير التموين على عدم المساهمة فى قرار يجمعه بوزراء الزراعة، والمالية، والتجارة الخارجية، للإعلان عن سعر توريد الذهب الأصفر قبل زراعته بشهرين على الأقل، وهو حق أصيل تكفله المادة 29 من الدستور.
والأهم من إنتاج القمح، تسليمه لهيئة السلع التموينية، لأغراض الخلط بالأقماح الأجنبية، وإنتاج الرغيف المدعم، لكن الأغلبية الثمينة منه تذهب علفاً للمواشى، كونه شاملاً النخالة «الردة»، والدقيق ذاته، ويُصبِح بعد جرشه أغنى من حيث القيمة الغذائية، وأقل سعراً من العلف الحيوانى المصنّع خصيصاً لتسمين الماشية.
والقرار الذى تدرسه هيئة السلع التموينية حالياً لرفع درجة المرونة فى تسلُّم الأقماح المستوردة، وذلك برفع نسبة الرطوبة فيها من 13.5% إلى 14.5%، قرار إيجابى، لكن الغيرة تجاه القمح المصرى تدفع كل مصرى للبحث عن مرونة موازية فى رصيده، تصب فى صالح الفلاح، من حيث درجة النقاوة، بدلاً من التعنت المبالغ فى هذه النقطة.
وإذا كانت المرونة لصالح الأقماح الأجنبية تستهدف كسب مزيد من الفرص التفاوضية على أسعار جيدة فى شرائها من الدول المعنية، خاصة فرنسا وروسيا، اللتين تخضعان لتغيرات مناخية، ربما تؤدى إلى زيادة الأمطار وقت حصاد القمح فيهما، وبالتالى زيادة نسبة الرطوبة فى المحصول، فإن طلب المعاملة بالمثل فى القمح المصرى يجب أن تكون مشروعة، لضمان تسلُّم أكبر نسبة منه أيضاً، بدلاً من جرش النسبة الكبرى منه علفاً للماشية.
لقد نجح السيد القصير وزير الزراعة الحالى فى رفع سعر أردب القمح 100 جنيه فى الموسم الماضى، لكنها تظل غير كافية لترجيح كفة زراعته، ونجحت جهود الباحثين والمربين المصريين فى تحقيق نتائج مبهرة فى إنتاجية القمح من وحدة المساحة، واستنباط أصناف مصرية أصيلة ضمن سلة الأصناف الفاخرة، ولا يبقى سوى الاعتراف من الجهات المختصة بتسلُّمه وتصنيعه بأنه يستحق نظرة سعرية أعلى من التقدير غير المجزى لمنتجيه، حتى يعود الفلاح المصرى للزهو بغيطه، ولينتظر -كما سلف- عيد القمح، الذى كان واحداً من أهم أعياد المصريين القدماء، وتسببت وزارة التموين منذ عقد من الزمان فى جعله مجرد أغنية فى ألبوم مهجور للمطرب الراحل محمد عبدالوهاب.
وما يبذله السيد القصير وزير الزراعة الحالى من جهود جادة لإرساء قواعد وآليات تنفيذ حقيقية لمنظومة الزراعة التعاقدية، ربما تنشل الفلاح والمربى من دائرة الخسارة، شرط أن تستجيب الحلقة الأهم فى المنظومة، وهو الطرف المشترى، لدواعى الحس القومى، من واقع مسئوليات مجتمعية ووطنية تجاه منتجى الغذاء، الذين يشكلون الطرف الأهم فى عقود الزراعات التعاقدية، ومن المسلم به: أنه لولا المزارع والمربى لزالت النِّعَم.