يوسف السباعى يكتب | رمضان كريم

كتب: يوسف السباعى

يوسف السباعى يكتب | رمضان كريم

يوسف السباعى يكتب | رمضان كريم

منحنى رمضان فرصة كبيرة للقراءة والكتابة، وأنا فى غير رمضان أقضى يومى كالمكوك.. أو الساقية.. أو كصاحب الشاعر الذى قال فيه: متواثب لا يستقر له قرار فى ممره. فإذا ما أزف موعد الكتابة ولم يعد منها مفر.. سجنت نفسى حيث لا يعرف أحد.. ولا أود أن يعرف أحد. فإذا ما انتهيت من الواجب أو الطريحة أو المقطوعية عدت مرة أخرى إلى عملية الدوخان فلا أستقر إلا وقت الطعام أو الرقاد. أما القراءة.. فأختلى الهنيهات فى زحمة العمل لأختطفها اختطافاً.. اختطافاً.. كأكل السندويتش فى زحمة الطريق. وأريح أيامى كانت سبعة أيام قضيتها راقداً فى المستشفى، أما أشدها سعة وأكثرها رحابة فهى أيام رمضان. يبدأ يومى فى التاسعة صباحاً.. فلا ينتهى حتى السادسة عندما ألم عزالى وأعود إلى البيت والمدفع على وشك الانطلاق.. وخلال الساعات التسع.. أكون أهدأ حركة وأقل دوخاناً.. ويكون الناس أقل إقبالاً وأخف وطأة.. لا سيما قبل العاشرة.. وبعد الثانية. وهكذا أستخلص من يومى أكبر قدر من ساعات الوحدة.. فأستطيع أن أكتب وأقرأ.. بلا مضايقات ولا منغصات. وفى رمضان فى السنين الماضية استطعت أن اكتب «أرض النعمان» و«بين الأطلال». وفى الأيام التى مرت من رمضان هذا العام.. استطعت أن ألم الستة فصول الباقية من طريق العودة. وأن أختلس وقتاً أطول للقراءة. فأخذت فى قراءة ما أهداه إلىّ زملاء نادى القصة نجيب محفوظ و«إحسان» و«عبدالحليم». ولا أظن المجال يتسع لكى أقدم عرضاً أو تحليلاً أو نقداً لما قرأت. وليعتبرها قارئى مجرد دردشة صيام، ولكن قبل أن أخوض فى الموضوع، أحب أن أسأله سؤالاً على هامشه: هل يستطيع الكاتب أن يكتب بسهولة عن زملائه.. وأن يقدمهم فى يسر وبساطة تقديماً ملؤه الوفاء الخالص والمحبة الأكيدة بلا تصنع ولا افتعال ولا جهد؟ أعتقد أن الإجابة ستكون تساؤلاً ودهشة: «ولِمَ لا؟». ولكنى أعود فأتساءل بصراحة أكثر: وغيرة الزمالة، أو غيرة المهنة الواحدة، أو الفن الواحد؟ هل يمكن إنكارها؟ والمنافقون.. سينكرونها.. بلا تفكير.. وهم أشد الناس إحساساً بها.. وسينتهى كل منهم إلى أنه لا يمكن أن يغير من زميله.. وأنه لا يكنّ له إلا كل تقدير وإعجاب. فإذا قصدته فى خلوة.. وطلبت منه رأيه بصراحة عن زملائه انطلق فى ذكر عيوبهم.. وخرجت من حديثه بذاءة.. وعندما تحدث المواجهة والمقارنة والموازنة.. يبرز الإحساس الذى سميته «غيرة المهنة» أو «غيرة الزمالة» واضحاً قوياً. كان ذلك واضحاً بين «شوقى» و«حافظ»، ومع ثقتى بأن طه حسين وتوفيق الحكيم يحب بعضهما بعضاً.. ويكن كل منهما للآخر إحساس محبة وتقدير.. ولكن أحس بغمز كل منهما للآخر فى مناسبات كثيرة.. غمزاً مكشوفاً أو خفياً. و«غراب» ونجيب محفوظ و«عبدالحليم» و«إحسان» و«الشرقاوى» و«باكثير» و«إدريس».. لا شك أصدقاء مخلصون.. ومع ذلك وبينى وبينكم لا يمنع إذا سُئل أحدهم عن الآخر أن ينشه نشّة أو يغمزه غمزة. وبقية أهل الفن.. من الموسيقيين والممثلين.. «عبدالوهاب» يغمزه «السنباطى» و«السنباطى» يغمز «زكريا».. و«زكريا» يغمز «القصبجى».. والجميع يغمزون «عبدالوهاب». والجيل التالى منهم.. «الطويل» و«الموجى» و«نويرة» و«جنيد».. لا يمكن أن يجرد أحدهم إحساسه للآخر من غيرة المهنة. وفاتن حمامة صديقة شادية.. ومنذ بضع سنوات خلال إخراج فيلم آثار على الرمال، الذي كانت «فاتن» تقوم ببطولته، التقت «فاتن» بشادية فى استوديو مصر.. وسلمت كلتاهما على الأخرى بشوق وحرارة.. وقالت «فاتن» وهى تفحص فستان شادية: الله يا شادية.. فستانك ده حلو أوى.. انتى باينة فيه رفيعة أوى. وبدت على وجه شادية علامات الرضا؛ فقد كان النقاد يتهمونها أنها على وشك السمنة. وأجابت: أصلى خسيت. ولم يعجب قولها «فاتن».. ولم يفُتها، ونشتها بقولها: ما خسيتيش ولا حاجة، أديكى زى مانت.. الفستان هو مش اللى مبينك كده.. بقى سؤال لا أظن واحداً إلا سألنى إياه.. وهو الأصل فى إثارة هذا الموضوع.. وأن: هل أحسست بغيرة المهنة؟ قد نشب إحساسها فى نفسى وأنا أهم بتقديم الزملاء فأخذت أضع السطور فى وصفها.. وضرب الأمثلة على وجودها.. حتى تنتهى اليوميات دون أن أقدم الزملاء.. أهذا تجاهل منى؟ أما عن الإحساس بها فأمر لا جدال فيه.. وأنا أعترف به.. وأدلل عليه بمنتهى الشجاعة؛ لأنى آدمى. لقد أحسست بالغيرة من زملائى كنت أنا أمتدح طه حسين، نجيب محفوظ، أو «غراب».. أحزن لأنى لست أنا الممدوح.. وكان إذا حصل «عبدالحليم» على جائزة تضايقت لأنى لست الحاصل عليها.. وإذا ذكر أحدهم اسم كتاب القصة الممتازين ولم يذكر اسمى بينهم، أصابنى الحنق والضيق.. وكنت أراجع نفسى وأناقشها.. وأحاول عبثاً.. أن أخلعها من إحساس الغيرة هذا.. حتى قرأت ذات يوم قصة «الجامحة» لأمينة السعيد، ووجدت فى مقدمتها شيئاً عن الغيرة المهنية.. كانت «أمينة» تقول إنها فى بداية عهدها بالعمل قالت لزميلتها بنت الشاطئ (أو قالت لها ابن الشاطئ، لست أذكر) بأنه لا مبرر مطلقاً بأن تغار إحداهما من الأخرى؛ لأن البلد لا يمكن أن يضيق بكلتيهما.. بل إنه يتسع لهما ولعشرات مثلهما.. وإنه ليس هناك مكان واحد لأديبة أو كاتبة حتى تضيّعا العمر فى التقاتل عليه.. ولقد مر بهما الزمن.. ونمت كلتاهما.. ولم يخفت بريق إحداهما بريق الأخرى.