حزب الله فى سوريا.. معضلة وجودية

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

منذ العام 2011 وبعد شهور قليلة من الاحتجاجات الشعبية فى سوريا، تحديداً مع بدء تسلح هذا الحراك وإعلانه خوض معركة مفتوحة ضد النظام، بدأ «حزب الله» اللبنانى يدخل بالتدريج على خط هذه الأزمة.

فى البداية اقتصر الأمر على إنفاذه لمجموعة من مستشاريه، الذين قدموا خدمات دراسة أوضاع التدهور الميدانى لأجهزة الأمن السورى، ثم أتبع ذلك بالدفع بمجموعات من قوات النخبة الخارجية (الوحدة 910)، التى تمركزت فى جنوب سوريا وبدأت فى تنفيذ عمليات نوعية وصفت حينها بالقمع والاستخدام المفرط للقوة المسلحة ضد مكونات عديدة كانت تتشكل على نحو متسارع ضد النظام السورى.

قراءة الحزب لمسرح الأحداث دفعته إلى العمل على إعادة صياغة أبناء الطائفة الشيعية داخل سوريا، وذهب إلى الانخراط فى عمليات تشييع واسعة بين سكان مناطق التماس الحدودى، للتغلب على ضعف نسبة أبناء الطائفة بالنسبة لمجمل الشعب السورى السنى.

تلك الخطوات التأسيسية لوجود «حزب الله» فى سوريا، اتسمت بارتباطها بتسارع الأحداث وصياغتها لعديد من ردات الفعل إزاءها، اعتبر أخطرها وأعمقها أثراً ما جاء لاحقاً وتمثل فى إعادة التشكيل الديموجرافى للسكان على خلفية مذهبية، فقد احتاج الحزب لأحزمة سكانية وحواضن بشرية تستقبل قواته العسكرية التى بدأت تتدفق داخل سوريا، مثلما جرى فى «بصرى الشام» شرق درعا و«الفوعة» و«كفريا» شمال أدلب و«الزهراء» شمال حلب، وغيرها من المناطق التى بدأت تمثل نقاط الارتكاز الأولى للحزب التى استلزم لإنفاذها التورط فى عمليات «التطهير المذهبى».

لكن يظل تاريخ الخامس والعشرين من مايو 2013، يحمل النقلة الفارقة لفاعلية الحزب فى نسيج المعضلة السورية برمتها، وقت أن أعلن أمينه العام «حسن نصر الله» المشاركة الرسمية لصالح النظام فى معركة استرداد مدينة «القصير» الاستراتيجية.

ومنذ هذا التاريخ المبكر لم يكن الروس قد وصلوا بعد، وبدأ التوغل والتدفق العسكرى يأخذ الحزب لطبيعة الحرب الكاملة فى مسارح عمليات متنوعة ومتفرقة، بغرض التصدى للإشكاليات العميقة التى تعرض لها النظام، بالتدفق الواسع للتنظيمات والكيانات المسلحة التى أدارت تركيا العديد منها من الخلف، حيث لم تكن قد دخلت هى الأخرى بشكل مباشر بعد.

لم تلبث المعضلة السورية أن تحولت إلى صراع إقليمى حاد، وتهيأ المشهد سريعاً لنموذج متكامل من حروب الوكالة، لعب فيها «حزب الله» لصالح أطراف أخرى كثيراً، لكنه فى غمرة ما خاضه لم يغفل مصالحه المباشرة التى حرص على تأسيسها مبكراً.

فقد ظل يقوم بحشد قواته وكثير من الموالين له وبعض من وحدات الجيش السورى فى محيط العاصمة «دمشق» من أجل تأمين الحماية لها، حين مرت بفصول كانت مهددة فيها على نحو بالغ، الحزب أدرك مبكراً أن سقوط العاصمة وانهيار النظام يمثل ضربة قاتلة لوجوده داخل محركات الأحداث.

لكن الخطط الاستراتيجية لـ«حزب الله» لم تقتصر على النجاح فى الاستحواذ على جانب مهم من صناعة القرار السورى، فهناك عديد من المهام على الأرض ظلت تمثل الجانب الأكبر من الأهمية بالنسبة للحزب، منها إنشاء حزام أمنى على طول الشريط الحدودى بين سوريا ومناطق سيطرة الحزب فى لبنان، ليكون بمثابة ممر إمداد آمن وبديل عن مناطق البقاع وجبل لبنان.

التوسع فى السيطرة على هذا المحور؛ ليتبعه توفير الحماية لطرق الإمداد البرى التى تصل ما بين إيران وسواحل المتوسط، عبر مرورها فى كل من العراق وسوريا.

وفى النهاية يتمكن الحزب من خلال السيطرة وتأمين تلك المحاور من تحويل الجنوب السورى إلى قاعدة عمليات متقدمة ضد إسرائيل فى حال نشوب أى تصعيد بينها وبين إيران، أو كجبهة بديلة للحزب فى حال الاشتباك بينه وبين إسرائيل تحقق له مرونة أكبر من الجنوب اللبنانى، الواقع تحت رقابة قوات «اليونيفيل» وداخل حزام تعقيدات الداخل اللبنانى.

اليوم وبعد مرور قرابة عقد كامل من هذا التدخل صار الأمر يمثل معضلة حقيقية مركبة، ليس على مستوى الصعيد الأمنى فحسب، بل يمتد لآفاق التوصل إلى تسوية سياسية للمأساة السورية.

فالحزب يوجد على الأرض السورية فيما يتجاوز (110 مواقع)، تتوزع على (9 محافظات) فى نواحى الجغرافيا الأربع، منها ما هو ممتد فى الشمال والجنوب، فيما يضم الوسط السورى وجوداً ملحوظاً، فى حين يحتل الحزب أيضاً فى المشرق بعضاً من المواقع.

لكل موقع داخل هذه الخريطة الذكية للانتشار مهام وطبيعة خاصة، لكنها تتناغم وتتكامل جميعها داخل خريطة التغلغل الاستراتيجية التى صارت تشكل عبئاً فادحاً على المستقبل المنظور.

فوجود «حزب الله» بمحافظة حلب على سبيل المثال له شكل شبه مستقل فى جزء منه وفى آخر بالمشاركة مع ميليشيات موالية لإيران، وفى بعض المناطق يتشارك بصورة صريحة مع وحدات من قوات الجيش السورى. يأتى هذا على هيئة «غرف دعم» تقدم خبرات لوجيستية واستخباراتية للمجموعات العاملة فى هذا النطاق الجغرافى، ولديها شبه قواعد عسكرية تقوم فيها بتجميع عناصر تلك المجموعات المتنوعة، كى تلعب أدوار التنسيق والتوزيع الخططى فيما بينها.

كما بدأ الحزب من العام 2016 فى إنشاء ثكنة عسكرية كبيرة بعد تمكنه من تحرير بلدتى «نبل» و«الزهراء»، ليستخدمها فى عمليات تجنيد وتأهيل مقاتلين محليين لإدماجهم فى صفوف المكونات القتالية. وهو بهذه الطريقة يعزز من المستهدف الإيرانى والسورى العام فى نزع المنطقة من حزام السيطرة التركية التى كانت تضع حلب فى بدايات الأزمة، باعتبارها المرتكز الأهم والمحورى للوجود التركى على الأراضى السورية.

هذا نموذج واحد من عشرات غيره، لكل منها مخططاته التكتيكية والتى تتلاقى استراتيجياً مع بعضها البعض لتكمل المستهدف العام، والذى يبدو حتى اللحظة رغم كل ما مر من أحداث الاقتتال متعدد الأطراف، لم يزعزع تلك القبضة الإيرانية عن العنق السورى. لذلك يبدو التفكير أو السعى لحلول شاملة ربما بعيد المنال، بالنظر إلى حجم هذا التغلغل وتأثيره ومداه، الذى بدا فى كثير من محطاته وقد سكن للأبد تحت جلد الدولة التى يسأل شعبها يومياً سؤالاً وجودياً وحيداً عن كيف ومتى تعود؟