حقوق الإنسان المصرى.. القصة الكاملة!

أحمد رفعت

أحمد رفعت

كاتب صحفي

كثيرة هى معايير الدول الغربية المزدوجة، التى تؤكد أمرين لا ثالث لهما.. إما أن هذه الدول بمنظماتها الحقوقية تفهم كل شىء، لكنها تصر على معاداتها لبلداننا.. وإما أنها تجهل بالفعل، لكنها عصية على الفهم!

لكل أمة من الأمم، ولكل شعب من الشعوب، بل ولكل جماعة بشرية جدول أعمال محدد، عليه أن يقوم به وينجزه لإنهاء مشكلات قائمة أو لإتمام تطلعات قائمة أو أحلام مؤجلة.. وفى مصر جرت مياه كثيرة كلها إلى الخلف عطلت كثيراً الانطلاقة القوية والكبيرة التى بدأت فى الخمسينات لتعويض معظم شعبنا ما فاته سنوات الاحتلال الطويلة واستئثار فئة قليلة لا تزيد على خمسة بالمائة على ثرواته وخيراته.. لهذا آمن أبناء الجيش العظيم ليس فقط فى توزيع أرض مصر على أصحابها الحقيقيين قبل الاستيلاء عليها من أسرة محمد على وإنما أيضاً بتوفير كل فرص الحياة الكريمة من حق هؤلاء فى التعليم حتى آخر مراحله، بل وتوفير فرص الدراسات العليا للمتفوقين من خلال بعثات إلى كل دول العالم حسب ما تتميز به من تخصصات.. فالطب إلى بريطانيا وأمريكا، والقانون إلى فرنسا، والموسيقى إلى النمسا، والفنون إلى إيطاليا، والهندسة إلى روسيا وألمانيا وأمريكا أيضاً وهكذا.. تم ذلك على أساس مبدأ تكافؤ الفرص وفق تفوق أبناء مصر وليس وفق النفوذ العائلى أو أى شكل من أشكال التميز..

عاد هؤلاء فى ما بعد ليقودوا نهضة بلدهم، حتى إن بعثة واحدة للإخراج قد تلمح فيها أسماء مهمة لعبت دوراً كبيراً فى القوى الناعمة المصرية، وربما لن يصدق الكثيرون أن مصر أرسلت أواخر الخمسينات مجموعة لدراسة الإخراج عادوا مسرحيين كباراً، منهم سعد أردش الذى ذهب إلى إيطاليا، وجلال الشرقاوى وحسين جمعة وكمال ياسين وقد أرسلوا إلى فرنسا، بينما أرسل فاروق الدمرداش ومحمد عبدالعزيز إلى بريطانيا، ثم فى عام 1964 سافر إلى إنجلترا أيضاً الفنانان المخرجان أحمد زكى وأحمد عبدالحليم، الذى أسس المسرح فى الكويت الشقيقة، بينما سافر كرم مطاوع فى منتصف الستينات إلى إيطاليا!

لماذا نقول ذلك؟ وما علاقته بحقوق الإنسان؟ نقوله لأن هذا الدور الكبير للدولة الذى اهتم بالتعليم وجعله على أوسع نطاق، واهتم بالعلاج والخدمات الطبية وجعلهما فى كل مكان، وآثر مبدأ تكافؤ الفرص، ليشعر الجميع بأنهم فى وطنهم، اهتم أيضاً بتهذيب الوجدان وتنمية الشعور الصحى والمشاعر الإيجابية تجاه الحياة والآخرين.. ولكن كل ذلك توقف فجأة!! وتراجع عبر خطوات عديدة!! ولم يعد التعليم مجانياً بالمعنى الحرفى، ولا العلاج كذلك، وأصبح أصحاب النفوذ وحدهم القادرين على الحصول على الوظائف المهمة مع توريث الوظائف فى كل مكان، خصوصاً طبعاً بعض الوظائف المهمة، وأدى تراجع الدولة التى قدمت استقالتها تقريباً من المجتمع إلى تراكم مخلفات اجتماعية عديدة، حتى على مستوى أشكال المعيشة، فظهرت العشوائيات وظهر القبح فى كل مكان، والمؤسف أنه صار جزءاً من حياة الناس يرفضون تغييره، بل ويقاومون أى عمل يخلصهم منه، وإذا نقلت بعضهم إلى معيشة أفضل تمردوا عليها!!

الآن والدولة تسترد دورها تجاه شعبها وتقتحم بجرأة المشكلات المزمنة.. هل ستبدأ بتوفير سُبل الحياة للناس أم تنطلق لتأسيس أكبر عدد من الأحزاب؟ بالطبع لا تعارض بين الأمرين ومسار التعدّد الحزبى لم يتوقف، وإنما نتكلم عن جدول أعمال شعبنا المراد إنجازه.. فكان ما كان مما نعرفه وتعرفونه.. العمل الحزبى كما هو والتعثر الذى لا ينكره أحد فى حركة الأحزاب، لكن كان على الدولة أن تنطلق فى مسار توفير حقوق الناس الأساسية الملزمة بها فى أى دولة تحترم شعبها.. وربما تبدو الأرقام قادرة على إثبات كم الجهد المبذول، وهكذا مثلاً كان برنامج تكافل وكرامة الذى وفّر دعماً نقدياً مباشراً لـ3.6 مليون أسرة برقم إجمالى يصل إلى 15 مليون مواطن تصل فاتورتهم إلى 18.4 مليار جنيه، بينما فى منظومة التموين بلغ عدد المستفيدين 63.5 مليون مواطن، و70 مليون مواطن فى منظومة الخبز بتكلفة إجمالية تصل إلى 89 مليار جنيه، فى حين وفرت مبادرة «حياة كريمة»، التى تخطط لتنمية 357 قرية أنجزت منها 143 قرية، أولها من حيث الاستفادة كانت محافظة أسيوط بـ115.5 مليون جنيه، إلى أقل المحافظات فى الحصول على دعم وكانت الوادى الجديد بمقدار مليون جنيه، وهى المبادرة التى بدأت بـ1.2 مليون، وصلت اليوم إلى 8 مليارات!!

فى العشوائيات، تم تطوير 296 منطقة، بإجمالى 177 ألف وحدة سكنية، وجارٍ تنفيذ 61 منطقة أخرى، منها مناطق تحولت إلى مستوى آخر، مثل منطقة زهور 15 مايو التى تضرّرت من السيول.

ما لا يقل عن مليون مواطن استفادوا من تطوير المناطق غير الآمنة، وعددها يبلغ 357، وبلغت قيمة الأموال التى أنفقت عليها 61 مليار جنيه من تكلفة إجمالية 318 مليار جنيه بنهاية عام 2030!

أما فى مجال الصحة والخدمات الطبية، فلم تكن مبادرة الـ100 مليون صحة وحدها المتاحة لشعبنا، رغم أنه من خلالها تم توقيع الكشف الطبى وإجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة لملايين المصريين، وتم صرف العلاج لمليون و800 ألف من أصحاب الأمراض المزمنة من ضمن العدد الذى تم توقيع الكشف الطبى عليه، ولمدة تكفى 3 أشهر قادمة، بتكلفة شهرية تبلغ نحو 360 مليون جنيه، من بينها 260 ألف قرار علاج على نفقة الدولة، ومليون و٥٤٠ ألف قرار تأمين صحى!

وإذا أضفنا مبادرات أخرى كمبادرة المرأة المصرية ومبادرات نور عينيك ومحاربة التقزم والسمنة وإنهاء كشوف الانتظار فى العمليات الجراحية وقرى خالية من فيروس سى، ومعها مبادرات زرع الكلى والكبد والقرنية وقواقع الأذن لأدركنا حجم ما قدّم من حقوق للإنسان المصرى كان فى مسيس الحاجة إليها، وكانت وستظل فترة طويلة بالنسبة لهؤلاء قمة أولوياتهم وجدول أعمالهم!

هل يعنى ذلك أنه متاح ومباح إهدار كرامة المصريين فى أى مكان؟! لا بالقطع.. بل بالعكس.. الدولة التى نحلم بها هى الدولة التى تضم معارضة مخلصة تقدم البديل وتفرز الكوادر المهمة فى كل مجال تقدمهم لخدمة مجتمعهم.. ويتاح لهذه الأحزاب أن تعمل بحرية وتتصل بالناس.. لكن هناك فرق بين المعارض والمتربص، نحتاج للأول ونواجه الثانى.. نحترم الأول ونقاتل الثانى.. الأول جزء من النظام السياسى، أى مؤسسة من بين مؤسساته.. والثانى خارج على المجتمع كله.. الأول يريد خيراً للوطن وأهله بتقديم وطرح ما يرى أن نهضة وطنه ستتحقق من خلاله.. والثانى لا يريد إلا السلطة حتى لو تم تدمير الوطن!

لكن.. ليس أسرع من خلق المعارضة الفعّالة الصحيحة إلا بخلق مجتمع واعٍ.. وهذا لا يتأتى إلا بخلق إنسان واعٍ.. والإنسان الواعى لن يتوفر إذا كان يعانى من غياب احتياجاته الأساسية ويضيع وقته وجهده وأحياناً عمره، وهو يبحث عن تعليم لأبنائه وعلاج له ومسكن لأسرته!

باختصار: كثير جداً فات شعبنا.. ومن حقه أن يتم تعويضه.. وعليه فى الطريق إلى ذلك أن يفرز ويقرر ويختار.. سيخطئ فى الاختيار مرة.. مرتين.. لكن سيصل إلى اللحظة التى يعرف فيها حقوقه وواجباته ودوره وسيتمسك بالقيام بكل ذلك.. لكن بالتراكم سيتحقق كل ذلك!