الانتخابات فى ظل «كورونا»

لا يتوقف فيروس «كورونا» عن فرض إيقاعه على التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى يشهدها عالمنا، ورغم أن البعض يعتقد أن مفاعيل هذا الفيروس الأساسية تنشط فى المجال الصحى بصورة رئيسية، فإن التطورات تخبرنا أنه استطاع أن ينفذ إلى كل جوانب حياتنا ويصبغها بألوانه الصارخة والقاتمة.

لا يحدث هذا فى الغرب فقط، ولا فى الدول النامية أو الفقيرة وحدها، لكن تأثيرات تلك الجائحة، التى لا تبدو أبعادها مفهومة على نحو واضح حتى وقتنا هذا، لا تترك بلداً من دون أن تضع بصماتها الغليظة عليه.

ولأن الحياة كان يجب أن تستمر، والأنشطة الحيوية يجب أن تتواصل، والاستحقاقات السياسية يجب أن يتم الوفاء بها، فقد جرت الانتخابات فى بلدان عديدة فى ظل انتشار الجائحة، لكن هذا الانتشار فرض إجراءات وتدابير مهمة فى هذا الصدد.

أول تأثير حاسم لفيروس «كورونا» فى مسار العمليات الانتخابية التى جرت فى العالم تحت ضرباته كان قيامه بالتصويت لصالح زعماء وضد زعماء آخرين.

ويسود فى هذا الصدد انطباع قوى لدى السياسيين والمراقبين أن «كورونا» على سبيل المثال منح صوته لبعض الزعماء والأحزاب الذين أثبتوا قدرة ومهارة فى مواجهة مخاطر الفيروس على بلدانهم، كما هو الحال فى نيوزيلندا.

وفى المقابل، فإن محللين كثيرين يعتقدون أن «كورونا» صوت بوضوح ضد الرئيس دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية، بعدما ساد الانطباع بأن هذا الأخير لم يتخذ الإجراءات الصحيحة فى مواجهة الفيروس، الأمر الذى كلف بلاده خسائر بشرية ومادية كبيرة.

ومن جانب آخر، فيبدو أن «كورونا» حرم ترامب أيضاً من البناء على النجاحات الاقتصادية التى حققها منذ وصل إلى البيت الأبيض فى العام 2016، ومنعه من مواصلة النمو ورفع مستويات التوظيف والحد من معدلات البطالة، ما أفقده حجة أساسية وذريعة وجيهة لحصد ثقة قطاعات من الجمهور.

لم يكن تصويت «كورونا» ضد بعض الزعماء والأحزاب أو لصالحهم هو الأثر الوحيد له فى العمليات الانتخابية، بل إنه فى بعض الأحيان أجبر الحكومات على تأجيل الاستحقاقات الانتخابية أو التفكير فى إلغائها، بسبب صعوبة إجرائها فى ظل مخاوف عميقة وإصابات متواترة بدت الأنظمة الصحية عاجزة عن التعامل مع تداعياتها حتى فى أكثر البلدان تقدماً وازدهاراً وتمتعاً بمرافق صحية متطورة وفعالة.

ومن أقصى الشرق، فى نيوزيلندا، أرجأت الحكومة الانتخابات شهراً، قبل أن يتم إجراؤها فى أكتوبر الماضى، لتفوز رئيسة الوزراء جاسيندا أردرن، ويحقق حزبها انتصاراً ساحقاً على المعارضين، وهو الانتصار الذى عزا المراقبون بعض أسبابه إلى نجاح الحكومة فى لجم ضربات هذا الفيروس.

لقد قامت «أردرن» بدور مهم وحيوى فى إبقاء معدلات الخطورة الناجمة عن تفشى هذا الفيروس منخفضة، عبر حزمة من الإجراءات والسياسات التى أظهرت نجاعة وبراعة، ما أبقى نيوزيلندا ضمن قوائم البلدان الأقل تضرراً بالجائحة.

ورغم ذلك، فقد هيمنت الإجراءات الاحترازية على عملية الاقتراع فى البلد الذى حقق نجاحاً لافتاً فى مواجهة الفيروس.

وفى الأردن درست الحكومة تأجيل الانتخابات لما بعد تخطى الجائحة، قبل أن تعود وتقرر أن تجرى الانتخابات النيابية فى وقت سابق من شهر نوفمبر الجارى، وسط تشديد على مراعاة التدابير الصحية وآليات التباعد.

أما فى مصر، فقد جرى استحقاقان أحدهما لانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ والآخر لانتخاب أعضاء مجلس النواب، وقد أظهرت الحكومة قدرة لافتة على تنظيم هذين الاستحقاقين فى أجواء الجائحة من دون مفاقمة المخاطر الصحية.

ولكى تنجح السلطات الوطنية فى تنظيم هذين الاستحقاقين على هذا النحو، فإنها بذلت جهداً واضحاً، ووفرت موارد، وأرست معايير أمكن من خلالها الحد من فرص انتشار العدوى، رغم وجود بعض الخروقات اللافتة، خصوصاً ما تناقلته وسائل الإعلام ووسائط «التواصل الاجتماعى» فى شأن بعض مظاهر الدعاية الانتخابية التى لم تراع التدابير الاحترازية، وهو الأمر الذى ظهر فى بعض الأحيان فى عدد من المؤتمرات الانتخابية.

وفى الهند، جرت انتخابات تشريعية إقليمية فى أكتوبر الماضى بنجاح، وهى الانتخابات التى اعتبرت فى جزء منها تصويتاً على شعبية رئيس الوزراء مودى. وقد قامت السلطات الهندية بجهود كبيرة من أجل الحد من فرص انتشار العدوى جراء الإقبال على التصويت فى تلك الانتخابات، وهو أمر يحسب لها بطبيعة الحال، خصوصاً ونحن نعرف أن الهند هى الدولة الأكبر من ناحية عدد السكان بين دول العالم التى تمارس انتخابات تعددية تتوافر على قدر من النزاهة وإتاحة التنافسية.

وعند استعراض تجارب البلدان التى واجهت حلول موعد الاستحقاقات الانتخابية فى ظل جائحة «كورونا» يتضح لنا أن أغلب تلك البلدان لم يلغ الانتخابات أو يرجئها إلى مواعيد غير محددة، وهو أمر يعزز الثقة فى العمليات الانتخابية والإطار السياسى للدولة بشكل عام، ويبعد احتمالات إساءة استخدام تداعيات الجائحة من أجل تمرير أجندات سياسية قد تكون معادية للديمقراطية أو ساعية للالتفاف على استحقاقاتها.

ولكى تنجح تلك البلدان فى إقامة العمليات الانتخابية ضمن أفضل الشروط، ولكى تحد من مخاطر تفشى المرض جراء انتشار الفيروس، فإنها لجأت غالباً إلى جملة من التدابير الاحترازية ذات الطابع الصحى لكى تؤدى تلك المهمة.

ومن بين ما اتفقت عليه تلك الدول فى تأمينها للعمليات الانتخابية من الناحية الصحية قيامها بتعقيم المنشآت والمقار الانتخابية، وفرض إجراءات تباعد على الناخبين، وتوفير الكمامات والمطهرات والالتزام باستخدامها.

كما اجتهدت تلك الدول فى توفير الخدمات الصحية الطارئة، وإتاحة سيارات الإسعاف المجهزة، فضلاً عن إجراء المسح الحرارى للناخبين قبل دخولهم إلى المقار الانتخابية للإدلاء بأصواتهم، للحد من إمكانية مخالطتهم لحاملى الفيروس.

لقد وضع «كورونا» دول العالم على المحك، وفرض على عديد من الحكومات والنظم السياسية خوض اختبارات قاسية، ومن بين تلك الاختبارات قياس قدرتها على الوفاء بالاستحقاقات الانتخابية فى ظل انتشار جائحة ما زالت معالمها غامضة وضرباتها ساحقة.

تمثل قدرة بعض الحكومات والأنظمة على إجراء الانتخابات العامة فى ظل «كورونا» عنواناً على الالتزام، ويمثل النجاح فى إنجاز ذلك الاستحقاق بأقل خسائر ممكنة دليلاً على الجدارة.