وجع عبدالله كمال!!

مات عبدالله كمال وأوجع قلوبنا لأننا، كأبناء مهنة سواء اختلفنا أو اتفقنا، لدينا خوف مسبق وأحياناً يقين محقق بأننا ذاهبون إلى نهاية الرحلة سريعاً بسبب طبيعة مهنة وضغوط عمل لا تنتهى، ضغوط تأكل الحواس وتقتل الوقت وتدمر الأعصاب وتقضى على نعمة الحياة، إنها مهنة تستلبك من حياتك ولا تشعرك بقيمتها وجمالها، فبعد نقطة البداية تتحول إلى أسير لها، هذا إذا أردت أن تكون شيئاً فيها وأن تؤثر فى محيط أوسع بكثير من محيط قرباك، أن تؤثر فى البشر، أقصد هنا المتلقين، اسمك على قطعة أو مادة مصورة أو على ترويسة صحيفة أو على مقال رأى أو على شاشة تستوعبك. إنها آمال الصحفى التى لا تنقطع، آمال يظن أنها دائمة خالدة ولا تعرف أن هناك من يتربص بالجسد، ويبحث عن أضعف أجزائه، فقد يكون قلباً أو كبداً أو خلية لديها قابلية للتحول وفقدان ثباتها وقيمتها فتصبح عدواً للجسد وتستهدف ما تبقى منه حتى يصل إلى الحتمية الأخيرة «فراق الروح». مات كثيرون منا، وقُبروا فى اللحد ولم يُقبَروا فى الصفحات، نعود إليهم كل حين، نتذكرهم بالخير كثيراً، ونتحسر على دنيانا الخائنة، ونقول: سنستدرك أخطاءنا ونعود إلى حياتنا لنفعل شيئاً غير الكتابة وصنعة الإعلام، ثم ننسى وننسى حتى يضربنا خبر رحيل غير متوقع، فتحل الغمة مرة أخرى ونحاول استدراجها مرة أخرى إلى واحة النسيان، ونظل هكذا بين خبر وخبر نعد بالخلاص من عبوديتها فتعود بنا إلى قيد أشد، فالفلك متسع لا تملكه بل يملكك، لن تفر منه، وقد تلحق بالعاقلين الذين يعيشونها بين بين، ولكن فى فترة متأخرة جداً، قالها لى المرحوم مجدى مهنا قبل شهور من رحيله: «لقد فاتنى فى الحياة الكثير وهناك أشياء لم أكن أراها ورأيتها متأخراً»، وبعدها بأيام فارقنا وظلت كلماته ترن فى أذنى كلما رحل عنا زميل أو صديق. الفشل فى الفرار منها سيلازمك إذا كنت محباً مخلصاً لتفاصيلها، واقعاً فى غرام صناعتها، عارفاً بدهاليز تفوقها، مدركاً قيمتها للوطن والحياة، مؤمناً بدورها الرسالى أو الإصلاحى، طامحاً إلى المزيد من أجل إثبات ذات أو تحقيق أحلام، كلنا نموت فيها وبها ولها وعليها ولا نستطيع الفكاك منها لأنها مثل الروح لا تفارقنا، سقطنا فى بحر عسلها، وغرقنا فى أمواجها، ولا تمنحنا فرصة لنطأ شواطئها، فحالة الصراع مع أمواجها دائمة. الدراما هنا متوهجة لا تنتهى، جذوتها مشتعلة لا تنطفئ، ولا أمل فى الهروب من سطوتها وقسوتها وغيِّها، إنها فاضلة وعاهرة فى آن، فاضلة لأنها مهنة الضمير وعاهرة لأنها تسرقك من كل الحياة، تسرق عمرك وصحتك وشبابك بل وإنسانيتك أيضاً، فالاستقالة من الحياة تجرد من الإنسانية أحياناً، ما استحق أن يولد من عاش لنفسه، نحن معها نستعجل النهايات، جميع النهايات، نهاية قصة، نهاية خبر، نهاية هواء، نهاية برنامج، نهاية مقال، نهاية حياة! كلمة أخيرة: الموت حق.. رحم الله عبدالله كمال وأسكنه فسيح جناته.