فرنسا فى موقف صعب
فى الوقت الذى أظهرت فيه فرنسا حرصاً واضحاً، خلال الأيام الفائتة، على احتواء أزمة «الرسوم المسيئة» مع العالم الإسلامى، لا يبدو أنها مستعدة بالقدر ذاته لمراجعة إطار «حرية الرأى والتعبير» الذى تستند إليه فى معالجتها لتلك الأزمة، رغم بذلها جهداً ملموساً للحد من الآثار السلبية لها.
تريد فرنسا أن تقول للعالم إنها تحترم الأديان والمعتقدات كافة، لكنها لن تتدخل بأى شكل للحد من انتقاد رموز أى دين أو أتباعه، بداعى حرية الرأى والتعبير، وتريد أن تقول أيضاً إنها حينما تفعل ذلك فإن عدالتها تُختبر فى عدم التمييز بين الأديان المختلفة وأتباعها، وليس عبر المقارنة بين حرية انتقاد الرموز الدينية وإتاحة أنماط التعبير «المعادية للسامية»، على سبيل المثال.
وفى إطار سياستها الرامية لتوضيح موقفها واحتواء الغضب العربى والإسلامى ضدها عقب واقعة إعادة نشر الرسوم المسيئة وتصريحات الرئيس ماكرون، التى فهم منها البعض أنه ينتقد الإسلام، قام وزير الخارجية الفرنسى لودريان، بزيارة عمل مكثفة الأسبوع الماضى للقاهرة، التقى خلالها الرئيس السيسى، ووزير الخارجية سامح شكرى، وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، كما سعى إلى توضيح موقف بلاده من الأزمة، خلال لقاء مصغر نظمته السفارة الفرنسية بين الوزير وعدد محدود من الكتاب والصحفيين المصريين.
وفى هذا اللقاء، شنّ الوزير الفرنسى هجوماً على تركيا، متهماً إياها بـ«تنظيم حملة معلومات مغلوطة» ضد بلاده، معتبراً أن أردوغان «وجد فى هذه الأزمة فرصة مناسبة لاستهداف فرنسا لأسباب سياسية وجيوسياسية».
وإلى جانب تركيا، اتهم الوزير الفرنسى كلاً من إيران وباكستان بـ«شن حملة أكاذيب وتلاعب ضد فرنسا، وهى حملة كان لها صدى وأثر مضاعف على شبكات مواقع التواصل الاجتماعى».
وأعاد لودريان، خلال هذا اللقاء، التأكيد على احترام بلاده العميق للإسلام، عاداً إياه «جزءاً من تاريخ فرنسا الفكرى والثقافى»، وأشار فى هذا الصدد إلى أن «المسلمين جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسى، يعيشون فى إطار يحميهم، ونحن حريصون على ضمان ذلك الإطار».
نحن نعرف أن شيخ الأزهر انتقد فرنسا خلال لقائه لودريان، ولوح بـ«اللجوء إلى المحاكم الدولية للتصدى إلى كل من يسىء إلى النبى الكريم»، بينما دافع الوزير عن موقف بلاده حين عزا التصعيد فى تلك الأزمة إلى ما وصفه بـ«الاستغلال والترجمة الخاطئة»، منتقداً حملة المقاطعة للمنتجات الفرنسية بالعالم الإسلامى.
وفى ختام اللقاء الذى عقده الوزير الفرنسى مع بعض الكتاب والصحفيين المصريين، سأل كاتب تلك السطور الوزير عما إذا كانت بلاده ستتخذ إجراءً مغايراً حيال إعادة نشر الرسوم المسيئة بها فى إطار جهودها لاحتواء الأزمة، فتفادى الإجابة، لكنه أعاد التأكيد على أن «فرنسا ليست لديها مشكلة مع الإسلام»، و«ليست فى معركة معه»، وأنها «تتفهّم شعور البعض بالصدمة فى معتقداتهم»، وأن «ثمة نقاطاً حول ما نعنيه بحرية الرأى والتعبير التى نمتلك بصددها تاريخاً مختلفاً، وهى نقاط تحتاج إلى أن نُجرى بصددها مزيداً من النقاش».
جاء لودريان إلى القاهرة، وزار المغرب بعدها، فى إطار سياسة فرنسية واضحة لاحتواء آثار نشر الرسوم المسيئة وتصريحات ماكرون، وتهدئة خواطر العالم الإسلامى، وإلقاء الضوء على عملية التحريض التى قامت بها دول مثل تركيا وإيران لاستثمار الحادثة، وانتقاد سياسات المقاطعة للمنتجات الفرنسية، عبر التأكيد على الاحترام العميق للإسلام ونبيه من جانب، وكون المسلمين جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الفرنسى من جانب آخر.
لكن ذلك كله لم يحمل فرنسا على تغيير موقفها، الذى يبدو ثابتاً حتى الآن، فى إعلاء قيمة حرية نشر الرسوم على قيم أخرى كثيرة؛ منها «احترام العقائد» ودرء المخاطر على السلم الأهلى ومصالح الدولة.
من جانبى، لا أعتقد أن فرنسا تدافع فى هذا الصدد عن حرية الرأى والتعبير بشكل عام، بقدر ما تدافع عن تلك الحرية فقط، فى إطار تناول الأديان وأصحاب المعتقدات؛ وهو أمر يمكن إثباته حين نعرف أن باريس تسمح بنشر المواد التى تسخر أو تنال من عقائد وأنبياء آخرين، بمن فيهم نبى المسيحية عليه السلام، لكنها فى الوقت ذاته لا تسمح مثلاً بالتشكيك فى المحرقة. تريد فرنسا القول إن تناول المعتقدات ورموزها وأصحابها بالسخرية والانتقاد حرية رأى وتعبير، وأن عدالتها تبقى على المحك فى ما إذا كانت تسمح بالتناول الناقد للعقائد كافة، وليس فى مقارنة السخرية من الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بمعاداة السامية.
يبدو إذاً أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، والهدف من تلك الخطوط يتعلق دائماً بحماية الأمن القومى.
وفى الواقع، أنه توجد تعريفات كثيرة لمفهوم الأمن القومى، كما يعرف الباحثون فى علم السياسة؛ لكن أحد أكثر هذه التعريفات إثارة للاهتمام قال به الباحث «أرنولد والفرز»، الذى رأى أن الأمن القومى هو «التدابير التى تتخذها الدولة لحماية القيم الحيوية للأمة».
سيُسهل علينا هذا فهم طبيعة التناقض داخل عدد من الدول الأوروبية وبين بعضها وبعضها الآخر حول ما إذا كان نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، يمثل حرية رأى يجب حمايتها، أم يمثل انتهاكاً وتمييزاً وإشاعة للكراهية وحطاً من شأن أتباع دين معين، يجب منعه.
حرية الرأى قد تكون قيمة حيوية فى مجتمع ما بأكثر من قيمة احترام العقائد، والعكس صحيح، كما أن مكانة كل من القيمتين يمكن أن تتبدل داخل المجتمع الواحد بتبدل الأوقات والظروف.
لكن ما يمكن قوله الآن إن فرنسا بحاجة إلى مراجعة موقفها من نسق القيم الذى تعتمده فى هذا الصدد. وانطلاقاً من اعتبار أن حماية القيم الحيوية شأن يخص الأمن القومى، فإن فرنسا مدعوة إلى النظر فى ما إذا كان السماح بالطعن فى رموز الأديان يمكن أن يحافظ على أمنها القومى أو يشكل تهديداً له.
ومن جانبنا، علينا أن نبتعد عن العنف تماماً، وأن نشرع فى خطة سياسية وقانونية وإعلامية لإقناع فرنسا بأن حماية كرامة رموز الأديان كافة وأتباعها ضرورى لصيانة مصالحها.