"بايدن" بين إسرائيل وإيران وفلسطين
بالرغم من أن الرئيس ترامب لم يقبل بعد خسارته الانتخابات الرئاسية لصالح منافسه جو بايدن، فإن سياسة الأخير المرتقبة تجاه العديد من القضايا الدولية والإقليمية تستحوذ على اهتمام العالم أجمع. فللرجل مواقف وتصريحات تجاه العديد من تلك القضايا والأزمات، بعضها يتعلق بأمور يمكن أن يقدم عليها بسهولة كبيرة، مثل العودة إلى اتفاقية المناخ، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونيسكو، وتسهيل انتخاب رئيس جديد لمنظمة التجارة العالمية، وإحياء التحالف عبر الأطلنطى مع دول أوروبا تحت منظومة الناتو، وربما أيضاً انتهاج سياسة أخف صخباً تجاه الصين وروسيا فى مجالات اتفاقيات التسلح الاستراتيجى والتجارة. إذ كل هذه القضايا ترتبط مباشرة برؤية بايدن للمصالح الأمريكية ومكانة الولايات المتحدة عالمياً. ومع غالبية الديمقراطيين فى مجلس النواب، فمن اليسير اتخاذ قرارات قابلة للتطبيق فى مدى زمنى معقول جداً بعد تولى مسئوليات الرئاسة رسمياً فى العشرين من يناير المقبل.
بيد أن هناك أيضاً العديد من القضايا والأزمات الدولية لا سيما فى منطقتنا العربية والشرق أوسطية، تنظر إلى بعض مواقف جو بايدن وتجد فيها خليطاً من الإمكانية والصعوبة والقيود العملية فى آن واحد. الرجل كما أعلن مرات عدة لديه رؤية مختلفة عن الرئيس ترامب بشأن إيران والاتفاق الدولى الخاص ببرنامجها النووى، وتجاه حل الدولتين للقضية الفلسطينية ودعم بقاء السلطة الفلسطينية واستمراريتها، وضمان التفوق النوعى العسكرى لإسرائيل وضمان أمنها بلا تردد. وهى قضايا مترابطة بشكل كبير، والسير فى إحداها بمنهج مختلف عن منهج الرئيس ترامب يؤدى بالفعل إلى إشكاليات سياسية وعملية بحاجة إلى فك رموزها وطلاسمها. ولذا فإن توقع إجراء تغيرات جذرية فى زمن قريب أو محدود يبدو مجافياً تماماً للواقع والتصور. والأدق والأكثر واقعية أن ينال الوضع الداخلى الأمريكى القدر الأكبر من الاهتمام فى المائة يوم الأولى لحكم الرئيس بادين حال إقرار فوزه رسمياً فى منتصف ديسمبر المقبل، كمواجهة جائحة كوفيد- 19، والعودة مرة أخرى إلى برنامج «أوباما كير» الصحى، وإعادة اللحمة المجتمعية المنقسمة على ذاتها، والبدء فى تنفيذ برنامج طموح للتعافى الاقتصادى ودعم الطبقة الوسطى الأكثر تضرراً من تفشى كوفيد 19، وإلغاء أو وقف تنفيذ أو تعديل العديد من القرارات السابقة الخاصة بأوضاع المهاجرين خاصة غير الشرعيين.
تركيز الرئيس المنتخب على تلك القضايا الداخلية لا يعنى أن فريق إدارته المعنىّ بالسياسة الخارجية والأمن القومى سوف يتوقف عن العمل، لكن يُتصور أن قراراته الكبرى سوف تؤجَّل إلى حين لإتمام فك التعقيدات التى فرضتها قرارات وسياسة الرئيس ترامب فى السنوات الأربع الماضية. وما يعنينا هنا يتعلق بحجم الجديد الذى يمكن لإدارة بادين أن تحققه تجاه القضية الفلسطينية والأزمة الإيرانية وإسرائيل. وهى قضايا وأزمات متشابكة، وأى موقف جديد فيها يتطلب أولاً تحديد كيفية فك هذا الترابط.
إن رغبة الرئيس بادين فى العودة إلى البرنامج النووى الإيرانى لن تكون ممهدة أو خالية من الشروط والعقبات، فمن جانب هناك العامل الإسرائيلى الذى يرى أن أى تغيير فى سياسة أمريكا يخالف ما تشكلت عليه سياسة الضغط الأقصى للرئيس ترامب والضرب بعرض الحائط بالاتفاق النووى الإيرانى، سوف يؤدى إلى مواقف إسرائيلية حادة قد تصل إلى اندلاع حرب مع إيران، وهو ما يشبه التحذير المبكر لإدارة بادين المرتقبة بأن أى تحول أمريكى تجاه إيران عليه أن يراعى المطالب الإسرائيلية قبل أى شىء آخر. لا سيما الإنهاء الكامل للبرنامج النووى وما يرتبط به من برامج تسلح صاروخى باليستية، وعدم رفع العقوبات عن طهران.
من جانب آخر، فإن مواقف الرئيس بايدن، كما صرح بها أثناء حملته الانتخابية، لا تعنى أنه سوف يقدم على العودة إلى الاتفاق النووى بدون شروط، بل ربط الأمر بأن تبدأ طهران بعض خطوات تؤكد بها التزامها الكامل بالاتفاق قبل الدخول فى مباحثات مباشرة، إما لتعديل الاتفاق فيما يتعلق بالمدة التى تمتنع فيها إيران عن القيام بأى عمليات تخصيب لليورانيوم، أو بحث قضايا أخرى أبرزها الدور الإقليمى لإيران وبرنامج الصواريخ الباليستية. وهكذا فإن الموقف الدقيق للرئيس ترامب لا يتصادم تماماً مع جوهر الشروط الإسرائيلية، وإن كان يختلف معه فى الشكل، وفى طريقة إقناع إيران بأن تتخلى عن طموحاتها النووية، وتهدئة المخاوف بشأن اندلاع حرب إقليمية.
الجانب الإيرانى الفَرِح بمغادرة الرئيس ترامب، والمُصر على صموده فى وجه أى ضغوط، يرى أن هناك فرصة لمراجعة الموقف الأمريكى الظالم تجاه إيران، لكنه ليس متسرعاً فى فتح صفحة جديدة مع واشنطن، إذ يدرك أن عليه فى كل الأحوال أن يدفع ثمناً سياسياً واستراتيجياً، يجب التمهيد له فى حال ظهر أن إدارة بادين المرتقبة جادة لتخفيف العقوبات، وتعويض الشعب الإيرانى عن المعاناة التى تعرّض لها فى السنوات الأخيرة وما زال. والواضح أن الرئيس ترامب وقبل إن يسلم السلطة فى حال أصبح خياراً نهائياً، سوف يقوم بتعقيد الأمر أكثر أمام إدارة بايدن المنتظرة، من خلال إصدار مجموعة من القرارات الجديدة العقابية المشددة على إيران حتى آخر يوم فى رئاسته، وبما يجعل التراجع عنها أمراً معقداً وصعباً للغاية، ويثير الكثير من العقبات أمام أى سياسة أمريكية تصالحية نسبياً مع إيران.
فى حال إقدام إدارة بايدن على تجاوز تلك القرارات العقابية بدون الأخذ فى الاعتبار الضغوط الإسرائيلية، وهو أمر غير مرجح، وفى حال استمر نتنياهو رئيساً للوزراء ولم تترنح حكومته، فمن المحتمل بقوة أن تتصاعد الأزمات بينه وبين الرئيس بايدن من ناحية بحيث تؤثر على مواقف الأخير تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية. وبالطبع هناك مخارج وتسويات يمكن الوصول إليها بين الطرفين، والمرجح أن تعمد إسرائيل إلى ضبط التحرك الأمريكى تجاه الفلسطينيين، وأن تلزمه بكل الإجراءات التى اتخذها الرئيس ترامب بشأن خطة صفقة القرن، وهو أمر أعلنه صراحة نتنياهو ومفاده أنه لا يوجد أى رئيس ديمقراطى يمكنه التراجع عن تلك الخطوات، لا سيما اعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وضم هضبة الجولان والتراجع عن الاستيطان وضم الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة.
الصورة على هذا النحو تتطلب قدراً من التريث والحذر، وتتطلب أيضاً لا سيما من الفلسطينيين، معالجة الأوضاع الداخلية وبناء التضامن الشعبى، وبرنامج نضالى ملزم للجميع يراعى التطورات الأمريكية، لكن بدون الوقوع فى أوهام أن الإدارة الجديدة سوف تُصلح كل أخطاء الإدارة السابقة.