مقاطعة المنتجات الفرنسية.. ما لها وما عليها

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

دعت فرنسا ممثلة فى رئيسها ماكرون ووزير الخارجية لودريان العالم الإسلامى إلى الكف عن مقاطعة المنتجات الفرنسية، لأن الداعين إليها أقلية، ولأن فرنسا لن تتراجع عن موقفها، أى لا تراجع عن حرية التعبير ونشر ما يراه الرسامون الفرنسيون من رسوم، حتى لو أساءت إلى معتقدات أكثر من مليار ونصف المليار مسلم.

الربط بين الأمرين حسب الرؤية الرئاسية الفرنسية يدلل على أن الرسالة التى حملتها دعوة المقاطعة لم تُفهم بعد فى الدوائر الفرنسية، لكن فى الآن نفسه هناك انزعاج كامن عبّرت عنه تغريدة الرئيس ماكرون باللغة العربية الناكرة للمقاطعة كمبدأ ضد موقف فرنسى رسمى، يرى كثير من عقلاء العرب والمسلمين أنه بعيد عن الحكمة التى يفترض أن تتسم بها سلوكيات دولة كبيرة لها علاقات ومصالح ممتدة مع العالميْن العربى والإسلامى. وهى مصالح تدعو أول ما تدعو إلى التعامل المتوازن، والأخذ فى الاعتبار مقدّسات العرب والمسلمين، بما فى ذلك الفرنسيون الذين يعيشون فى الداخل، وغالبيتهم الساحقة متعايشون بسلام مع قواعد الجمهورية الفرنسية، ويرفضون التطرف والعنف الذى تورط فيه بعض الموتورين، وبالتالى يُعد التمييز بينهم وبين غيرهم ضرباً فى الصميم بمبادئ الجمهورية الفرنسية نفسها قبل أى شىء آخر.

وهنا مكمن خلل شديد، استناداً إلى مبادئ العلمانية الفرنسية نفسها، وما يرتبط بها من حرية التعبير والمساواة والإخاء. فبدلاً من مراعاة حريات الآخرين وقناعاتهم رأينا أن الأولوية هى الإساءة تحت شعار حرية التعبير، والذم والخروج عن أبسط المبادئ المتعلقة بحماية حريات الآخرين وقناعاتهم كمكون أساسى من مبدأ الحرية نفسه. وفى هذا تناقض كبير ما كان لمسئول فرنسى أو غير فرنسى يؤمن بالحرية كمبدأ جوهرى فى الحياة وفى النظام السياسى أن يقع فيه.

لقد أدان العالم العربى والإسلامى جريمة قتل المعلم الفرنسى على يد شاب يعيش فى فرنسا محسوب على المتطرّفين من الإسلامويين، وهى إدانة عبّرت عن اتجاهيْن رئيسيين فى العالم الإسلامى شرقاً وغرباً؛ أولهما اتجاه التسامح الإسلامى المناهض لكل ما هو عنيف ومتطرف، وهو الاتجاه الغالب والساحق، والثانى اتجاه التطرّف والعنف والمواجهة الدائم مع الغير المختلف وهو الاتجاه الأقلوى والمنبوذ عربياً وإسلامياً. بيد أن الرسالة الجوهرية فى إدانة العرب والمسلمين لحادثة المعلم الفرنسى المغدور لم توضع فى الاعتبار الفرنسى، وكأنها لا تمثل شيئاً حين تقرر على أعلى المستويات نشر كل ما هو مسىء إلى النبى محمد وعلى نطاق أوسع. ولا شك فقد أعطى هذا التصرّف حجة للمتطرفين، وخصماً من الموقف الإسلامى العقلانى، مما شكل دافعاً لتحرك المشاعر الشعبية الغاضبة، فكانت دعوة المقاطعة للمنتجات الفرنسية، وليس لفرنسا.

ومن المهم هنا أن نشير إلى عدد من العناصر؛ فدعوة المقاطعة للمنتجات الفرنسية ليست وراءها جهة رسمية، سواء عربية أو إسلامية، وإنما انطلقت فى الفضاء الإلكترونى، جزء منها متعمّد من جهات أو منظمات تدّعى الحرص على الإسلام، وبعضها يعيش فى الغرب نفسه، ربما للتغطية على أمور أخرى شغلت الرأى العام العربى، كالدعوة إلى مقاطعة المنتجات التركية، تعبيراً عن رفض المواقف والسياسات التركية العدائية تجاه الكثير من الدول العربية، وجزء آخر وهو الغالب جاء مدفوعاً بالمشاعر الغاضبة كنتيجة طبيعية للمس المتعمد فرنسياً، ومن أعلى المستويات، بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وهى حتى اللحظة لا تُعد تياراً عاماً فى جميع المجتمعات العربية والإسلامية، إذ تطبّق بدرجات مختلفة وعفوية، ومن ثم يمكن أن نفسر الانزعاج الفرنسى من تلك الدعوة، لأنها تمس من القيمة المعنوية التى تستند إليها فرنسا فى علاقاتها العربية والإسلامية المتشعبة رسمياً وفكرياً.

ثانياً أن الدعوة للمقاطعة ليست أمراً غريباً فى العلاقات الدولية، فهى جزء أصيل من سياسات الغرب ضد الكثير من البلدان فى العالم كله. ونرى ذلك فى عمق السياسة الأمريكية والأوروبية لسنوات طويلة مضت، كما هو الحال ضد إيران والصين وروسيا وغيرها، وحساباتها السياسية أكثر كثيراً من حساباتها المبدئية. وهى ليست شراً دائماً أو خيراً دائماً، إذ تجمع بين الأمرين ويتوقف الأمر على من يقاطع من ولماذا؟ فالموقف الأوروبى العام تجاه مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية الغاصبة للأراضى الفلسطينية يعكس موقفاً مبدئياً ضد الاحتلال وغصب أراضى الغير، وبالتالى نرحب به عرباً ومسلمين، وفى السياق ذاته كانت المقاطعة مُرحّباً بها ضد نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا قبل أن تنهى هذا النظام البغيض مطلع تسعينات القرن الماضى. الكثير من الدول العربية لجأت إلى هذا السلاح فى مجال البترول إبان حرب أكتوبر 1973 للتضامن العملى مع مصر وسوريا فى حربهما ضد إسرائيل، وللضغط على الدول الأوروبية والولايات المتحدة التى أمعنت آنذاك فى تجاهل الحقوق العربية، لا سيما تحرير الأرض العربية من الاحتلال.

أما مقاطعة بلدان ومجتمعات بكاملها ومحاصرتها من أجل تدميرها وإذلال شعوبها فهو أمر لا أخلاقى ويستحق الرفض. والأمثلة كثيرة كما حدث مع العراق فى التسعينات، وامتد إلى الاحتلال الأمريكى البريطانى 2003 وما بعده، ومقاطعة فنزويلا فى الأعوام الثلاثة الماضية من أجل تغيير نظامها بالقوة. وكل هذه الأمثلة وغيرها، فهى بفعل الحكومات، ولها أهداف سياسية واضحة.

ثالثاً الشعوب أيضاً تلجأ فى لحظات تاريخية من حياتها إلى سلاح المقاطعة للتعبير عن غضبها والضغط على القوى الظالمة. أكبر الأمثلة التاريخية تأثيراً ما فعله المهاتما غاندى كجزء من مواجهة شعبية سلمية للاحتلال البريطانى، من خلال مقاطعة الملح الذى احتكرت صناعته بريطانيا، وفرضته بأسعار مبالغ فيها على المواطنين الهنود، ومقاطعة الملابس القطنية المصنوعة فى بريطانيا، واستخدام الملابس المصنوعة وطنياً، ومعروف أن هذه المقاطعة كانت جزءاً من فلسفة كاملة للنضال السلمى اللاعنيف ضد الاحتلال، ولعبت دوراً رئيسياً فى التعجيل بإنهاء الاحتلال البريطانى واستقلال الهند 1948. وفى أمثلة أخرى لجأت شعوب إلى مقاطعة سلع ومنتجات بلدان أخرى للتعبير عن الغضب من موقف أو سياسة معينة لبلد جار ولا تقبل بها تلك الشعوب، وهو ما رأيناه فى مقاطعة الصينيين للمنتجات اليابانية 2012، والتى اتسمت بالعنف وتحطيم السيارات يابانية الصنع وإغلاق المصانع التى تنتج سلعاً من أصل يابانى، وذلك نتيجة النزاع حول سنكاكو التى استولت عليها اليابان ويراها الصينيون جزءاً من تاريخهم وأرضهم. وفى الأخير علينا أن ندرك قيمة التحرّك الشعبى لمواجهة تجاوزات الآخرين.