الخيوط المشدودة بين روسيا وتركيا فى الجوار الآسيوى
رفض كلا الطرفين الأرمينى والأذربيجانى محاولة الوساطة الفرنسية، وبدا هذا الأسبوع المنصرم، قد وضع أزمة التصعيد العسكرى أو فصلها الأحدث على صفيح احتقان ساخن، لم تفلح معه مناشدات دول رئيسية وأخرى لها ارتباطات بكلتا العاصمتين، وحتى الأمم المتحدة، من أن تساعد على تهدئة حدة الاقتتال، ومحاولة حصار امتداده، مما استدعى الحلفاء التقليديين، لتظهر «أنقرة» سريعاً بجانب أذربيجان فى تحركات وصفت بأنها ساهمت فى صب الزيت على مشهد الاشتعال، فى الوقت الذى بدت «موسكو» أكثر هدوءاً وتعقلاً حتى وهى حاضرة بجوار أرمينيا، تتحدث بلهجة مغايرة إلى حد كبير عما كانت تتناوله فى فصول تصعيد مشابه من قبل.
ففى الوقت الذى دعت فيه روسيا وفرنسا والولايات المتحدة إلى إيقاف العمليات القتالية بشكل فورى، حفاظاً على حياة المدنيين الذين داهمهم هذا التصعيد المفاجئ، فأسقط منهم عشرات الضحايا خلال الأيام الأولى، جاء الموقف التركى ليصف الأرمن بـ«المحتلين» ويصف دعوات وقف إطلاق النار بـ«السطحية»! لكن الواقع أن السلوك التركى هو الذى تجاوز السطحية واقتحم العمق بأسرع مما انتظر أحد من أطراف المشهد، فأرمينيا أكدت أن لديها معلومات بأن 150 ضابطاً تركياً رفيعى المستوى يساعدون منذ اللحظات الأولى فى توجيه عمليات أذربيجان العسكرية. وأمام تأكيدات أرمينيا وروسيا وفرنسا بأن محاربين من المعارضة السورية يقاتلون مع الجانب الأذربيجانى، لم يكن هناك سوى النفى التركى التقليدى، فهناك نسخة شبيهة لما جرى فى غرب ليبيا بدأت المصادر السورية تنقل بياناتهم، بأسماء من جرى شحنهم إلى هذا الميدان الجديد من داخل سوريا ومن معسكرات اللاجئين فى تركيا، بل وهناك عمليات نقل عكسية جرت من ليبيا إلى تلك الجبهة، عقب فرض وقف إطلاق النيران وتضييق مساحات الحركة أمام المرتزقة الذين جلبتهم تركيا قبلاً.
إقليم «ناجورنو كارباخ»، مسرح هذه العمليات الجديدة، جيب يقطنه منحدرون من أصل أرمينى داخل أراضى أذربيجان، التى لم تعد تسيطر عليه فعلياً منذ تسعينات القرن الماضى، وهى اليوم ربما تسقط فى فخ الأداءات التركية، عندما أعلن العسكريون «رفع الجيش الأذربيجانى علم بلادهم على قرية ماداجيز» باعتباره انتصاراً، فى الوقت الذى علق «آرتسرون هوفهانيسيان»، المسئول بوزارة الدفاع الأرمينية: إن الوضع يتغير بشكل متكرر. ففى مثل هذه الاشتباكات وأعمال التوغل العسكرية تكون مثل هذه التغييرات طبيعية، ويمكن لكل طرف اتخاذ موقف ثم التخلى عنه فى غضون ساعات أو أيام. لكن فى ذات الوقت يعترف الجانب الأرمينى أن القتال على طول الجبهة شديد، رغم إحجام القوات المسلحة الأرمينية حتى الآن عن دخول الحرب إلى جانب تلك الموجودة فى الإقليم محل النزاع، وتقدر أرمينيا أن القتال سيطول، لذلك فهى ما زالت تدخر ما لديها حتى الآن، ليمكنها من تعويض خسائر الإقليم، كما ورد على لسان رئيس الوزراء الأرمينى «نيكول باشينيان»، حين وصف محصلة أسبوع من القتال بـ«حتى الآن لدينا بالفعل خسائر بشرية كبيرة، عسكرية ومدنية على حد سواء، وكميات كبيرة من المعدات العسكرية لم تعد صالحة للاستعمال، لكن العدو ما زال غير قادر على حل أى من قضاياه الاستراتيجية».
ربما يمثل حديث «باشينيان» أصدق توصيف للمشهد الراهن فى الوقت الذى تعتبر أرمينيا نفسها الضامن لأمن «ناجورنو كارباخ» من أشكال الفظائع الجماعية، التى تسكن هواجس سكان الإقليم أمام الاندفاع التركى المحموم، الذى يعد الأعنف منذ التسعينات، ويعزز المخاوف الدولية على الاستقرار فى جنوب القوقاز، باعتبارها المنطقة الأهم التى تنقل النفط والغاز من أذربيجان إلى الأسواق العالمية. فذكرى الصراع الذى نشب للمرة الأولى عام 1988، لم تغادر الذاكرة المقيدة بما وقع من ضحايا قدروا بنحو (30 ألفاً) من الجانبين قبل وقف إطلاق النار فى 1994. الأبعد فى الذاكرة ليس بأقل مأساوية، فهناك من يرى هذا الفصل من الصراع شبيهاً ببدايات الحرب ضد الدولة العثمانية فى أوائل القرن العشرين، حيث بدأت مشاهد النزوح تغزو منطقة «جوريس» على الحدود بين «ناجورنو كارباخ» وجنوب شرق أرمينيا. فالمئات وصلوا على عجل من داخل الإقليم إلى «جوريس»، رغبة منهم فى الفرار تجاه «يريفان»، عاصمة أرمينيا، التى تبعد 350 كم إلى الشمال الغربى، هذا التدفق البشرى الذى أيقظ الهواجس جاء من أكبر مدن الإقليم «ستيبانا كرت»، التى تقع على ارتفاع 2300 كم وسط الجيب الجبلى، وتعرضت خلال أيام القتال الأولى إلى قصف مدفعى عنيف ومكثف، لتظل صافرات إنذار تدوى فى آذان 55 ألف نسمة، هم سكان المدينة المعزولة جغرافياً بالوديان الضيقة المتعرجة التى تمثل طريقاً وحيداً محفوفاً بمخاطر النزول تحت وطأة هجمات الطائرات المسيرة التركية، التى لم تغادر سماء المدينة منذ بدء القتال، لتتغلب على تحدى الجغرافيا ولتمثل سلاحاً جديداً يظهر للمرة الأولى تمكن من حصد الضحايا بسهولة، وتسبب بتلك النقلة النوعية، فضلاً عما سببه من حالة الهلع بين السكان المدنيين.
دخل الرئيس بوتين على خط الأزمة لإدراكه خطورة الموقف، داعياً الطرفين الآذرى والأرمينى إلى التهدئة والعودة إلى طاولة الحوار، فـ«الكرملين» قادر على قراءة المشهد وتفاصيله بشكل معمق، ويسكنه أيضاً قلق وهواجس هذا التسارع فى الأحداث، الذى بدا مقصوداً من الجانب التركى فى حد ذاته. فالظهور المباغت لهذه النوعية الجديدة من التسليح التركى، كشف أن المناورة العسكرية التى جرت بين «أنقرة» و«باكو»، أغسطس الماضى، ولم تحظ بالاهتمام الكافى من الأطراف الأخرى رغم كونها الأكبر ما بين العاصمتين، هى التى تم فيها تدريب العسكريين الآذريين على طرازات المدفعية الثقيلة وعلى الطائرات المسيرة التركية، واليوم مع ظهورها فى جبهات القتال صار المشهد يسير باتجاه صناعة مأساة سريعة، تجعل أيام التصعيد المعدودة قادرة على تأسيس أوضاع قد توقظ فصول التاريخ الكريهة، وتفتح تساؤلات الارتباط بين جبهات التصعيد المختلفة بعضها وبعض، فى روابط شيطانية لا يعرف أحد مداها المنظور حتى الآن.