د. سمية أبوفاطمة تكتب: جائحة كورونا بين نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة

كتب: د. سمية أبوفاطمة

د. سمية أبوفاطمة تكتب: جائحة كورونا بين نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة

د. سمية أبوفاطمة تكتب: جائحة كورونا بين نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة

استيقظ العالم فى أواخر سنة 2019 ومطلع سنة 2020 على فاجعة من العيار الثقيل لم يكن بالإمكان تصور حجمها ولا التنبؤ بأضرارها، وهى انتشار فيروس قاتل يصيب الجهاز التنفسى والرئوى، أُجمع على تسميته بفيروس كورونا (كوفيد 19) ظهر ابتداء فى الصين، وانتشر تباعاً فى كل الدول وعلى صعيد كل القارات بلا استثناء، وهذا ما دفع منظمة الصحة العالمية إلى توصيفه بالجائحة.

أدت سرعة انتشار فيروس كورونا بين الدول وحدّة آثاره الصحية التى تصل إلى الوفاة بالحكومات فى مختلف الدول إلى اتخاذ إجراءات احترازية حازمة للتوعية أولاً بمخاطره وسبل تجنبها، وثانياً الحد من انتشاره إلى حين التوصل لعلاج ولقاح له، وفى ظل تسارع الحكومات ومعها المنظمات الصحية ومراكز البحث العلمى للبحث عن سبل القضاء على هذه الجائحة، كانت كل الهياكل والقطاعات الأخرى شبه متوقفة من جرّاء تعليمات السلامة المبنية على نظرية التباعد والعزل ونظرية العمل عن بُعد، باستثناء بعض القطاعات الحيوية فى الدولة مثل الخدمات السلعية والصحية والمرافق العامة التى يحتاجها المواطن.

جائحة كورونا هددت وتهدد الأمن الصحى العالمى بما تلقيه من إشكاليات ذات أبعاد قانونية واجتماعية واقتصادية وسياسية، سواء على الصعيد الداخلى للدول أو فى علاقة الدول ببعضها البعض، وتهدد الاتفاقيات الجماعية والتعهدات الراسخة فى مجال تبادل السلع والخدمات، وتؤثر على جدية العقود والالتزامات وسبل الوفاء بها.

امتدت آثار فيروس كورونا إلى اقتصاديات كل الدول نتيجة التوقف شبه الكامل لكل الخدمات، ونتيجة إقفال الحدود بين الدول درءاً لانتشار الفيروس وسعياً لانحساره، وهذا ما أثر على التعاملات التجارية والالتزامات التعاقدية وأدى إلى شلل فى أجزاء حيوية فى الاقتصاد، وأصبح من الصعب على أطراف هذه التعاملات، سواء أكانت أفراداً أو شركات معنوية أو كيانات دولية، الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها وتنفيذ عقودها، حيث تم تجميد تنفيذ معظم العقود عملياً منذ تنفيذ تدابير الاحتواء والعزل.

المشرع المصرى لم يترك الأمر على عواهنه، بل تصدى بالتقنين فى صلب القانون المدنى رقم 131 لسنة 1948 لمثل هذه الحالات والتى يصعب فيها على المدين تنفيذ التزامه، سواء أكان فرداً أو شخصاً معنوياً نتيجة وجود سبب أجنبى حال بينه وبين التنفيذ، سواء أكانت تلك الاستحالة مؤقتة أو دائمة، ولقد تقاسمت هذه الحالات نظريتان وهما نظرية القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة، وانقسم القانونيون بشأن كلتا النظريتين ومدى تطبيق جائحة كورونا على إحداهما.

بخصوص نظرية الظروف الطارئة نصت الفقرة الثانية من القانون المدنى المصرى رقم 131 لسنة 1948: «ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن فى الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدى، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضى تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك»، من خلال هذه المادة يتبين أن نظرية الظروف الطارئة هى نظرية قوامها سقوط الالتزام حينما يصبح صعب التنفيذ، ولها شروط، وهى حصول الظرف الطارئ العام بعد نشأة الالتزام وعدم إمكانية توقع الظرف الطارئ، وأن يصبح تنفيذ الالتزام مرهقاً وليس مستحيلاً.

أما القوة القاهرة فتتحقق بوقوع حادث لا يمكن توقعه ولا يمكن دفعه، وتعرّف بأنها سبب أجنبى يخرج عن إرادة الطرفين يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً، وتعنى الاستحالة أنه ليس بمقدور الأطراف دفع هذا السبب أو التغلب عليه، ونصت المادة 165 من القانون المدنى المصرى على أنه «إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبى لا يد له فيه، كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ من الغير، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك»، كما تمت الإشارة إلى انقضاء الالتزام بفعل القوة القاهرة التى أدت إلى استحالة التنفيذ فى المادة 373 من نفس القانون «ينقضى الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء به أصبح مستحيلاً عليه لسبب أجنبى لا يد له فيه».

إن كلتا النظريتين هما خروج عن مبدأ سلطان الإرادة ومبدأ «العقد شريعة المتعاقدين»، وإرساء لعرف أخلاقى مثبت قانوناً مفاده أنه «لا تكليف بمستحيل»، وهذا الخروج يكون لأسباب أثرت على القدرة على تنفيذ الالتزام، ويُرجع فى تقديرها إلى السلطة التقديرية لقاضى الموضوع بناء على الوقائع والأحداث ومعطيات الالتزام بين الأطراف.

إن السلطة التقديرية للقاضى لها أهمية قصوى، خصوصاً إذا علمنا أن هناك قطاعات شهدت انتعاشاً فى فترة أزمة كورونا، ومنها التجارة الإلكترونية وتجارة السلع والخدمات الحيوية للمواطن والتجارة فى القطاع الصحى، فى مقابل شلل شبه تام فى قطاعات أخرى.

إن جائحة كورونا، فى نظرى، تستوعب كلاً من نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة، وهذا بحسب طبيعة الالتزام ومحله وتوقيته، وهل أصبح هذا الالتزام صعب التنفيذ أم مستحيل التنفيذ، وهذا راجع فى تقديره إلى محكمة الموضوع.

إن اللجوء إلى مقتضيات القانون المدنى فى كل التشريعات المقارنة فى الدول المتضررة، ومنها مصر، والتمسك بنظريتى القوة القاهرة والظروف الطارئة لإسقاط الالتزامات والتنصل من العقود وعدم الوفاء بالديون والمستحقات هو أمر ليس بالهين، نظراً لطبيعته الاستثنائية، كما أنه معقد الإجراءات ويخضع للسلطة التقديرية لقاضى الموضوع، ومن خلال استقرائنا لأغلب السوابق القضائية، سواء فى مصر أو فى معظم الدول، وعلى رأسها فرنسا، نجد أن القضاء متشدد للغاية فى إعطاء المدين فرصة للتنصل من التزامه تحت ذريعة القوة القاهرة أو الظروف الطارئة، وهذا ما أقرته المحاكم فيما عُرض عليها من طلبات لإسقاط الالتزامات التى استحال تنفيذها بسبب الأوبئة التى ضربت العالم فى السنوات الأخيرة، ومنها إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير، وكل مرة تؤكد المحكمة عدم وجود دليل قاطع وصلة بين القوة القاهرة واستحالة احترام وتنفيذ العقد، وهذا ينطوى على درجة معينة من التشدد فى تقييم نظريتى القوة القاهرة والظروف الطارئة.

وإذا كان لهذا التشدد ما يبرره فى الأوبئة التى ضربت العالم فيما سبق، فإن الأمر يختلف كلياً فى جائحة كورونا، وهذا جلى وواضح من خلال الرقم القياسى الذى سجله معدل الوفيات فى كل أنحاء العالم، وكذلك من خلال إجراءات الاحتواء والعزل والتباعد وإقفال الحدود وتضييق الخناق على كل سكان الأرض، وهذا ما لم يشهده العالم من قبل.

إن الطبيعة الاستثنائية لجائحة كورونا تدعونا إلى مطالبة القائمين على الدوائر القضائية بتطبيق نظرية القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة إذا استدعت الضرورة، لأن الواقع أثبت -وللأسف- أن أغلب الدائنين بالحقوق وأصحاب الامتياز والمستحقين للدفعات والأقساط والالتزامات المالية المنبثقة عن العقود رفضوا طلبات تعليق أو إلغاء المستحقات المالية، سواء أكانت دفعات مستحقة مثل الإيجارات السكنية أو التجارية أو المهنية أو مبالغ واجبة الأداء نتيجه توريدات بضائع أو خدمات، وهذا ما دفع حكومات الكثير من الدول إلى الدعوة إلى الحوار والتفاوض وإرساء مبدأ التفاهم المبنى على الرضائية بين كل الشركاء والمؤسسات والكيانات الاقتصادية والأطراف التعاقدية، خصوصاً بعد توصيف منظمة الصحة العالمية (WHO) وباء «كوفيد 19» بأنه «حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقاً دولياً»، مؤكدة على طبيعتها غير العادية، ففى فرنسا أعطى وزير الاقتصاد والمالية السيد برونو لومير إشارة مهمة خلال خطابه فى 29 فبراير 2020 حيث قال: «تعتبر الدولة فيروس كورونا قوة قاهرة بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة وبالنسبة للعقود العامة والحكومية والخاصة، هذه القوة القاهرة يجب أن تُسقط الغرامات وتلغى العقوبات على المتأخرين فى السداد أو التسليم».

إذاً لا بد من دعوة الحكومات، عبر قياداتها لكل الأجهزة المعنية بالاقتصاد من بنوك وشركات التأمين وجميع الجهات الفاعلة فى المنظومة الاقتصادية، إلى عقد طاولات حوار وتفاوض رضائى بشأن إعادة صياغة العقود وإعطاء مدد وآجال طويله للسداد وإسقاط الغرامات والعقوبات ومنح تسهيلات للموردين والتجار.

وفى حالة ما إذا استُنفدت كل الجهود الرضائية فى الوصول إلى اتفاق يرفع الإرهاق عن المدينين ثم عُرض الأمر على القضاء فنتمنى منه تطبيق نظريتى القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة لرفع العبء والظلم الذى قد يلحق بالمدين جرّاء عدم قدرته على تنفيذ العقد وأداء الحق وتحقيقاً للعدالة القانونية وإرساء مبدأ استقرار المعاملات التجارية والمدنية وحفاظاً على السمعة والثقة بين الأفراد والكيانات التجارية من خلال فحص الشروط التعاقدية المطبقة والاستحالة المادية الحقيقية للأداء ونطاق هذه الاستحالة، مع التأكيد الهام بأن الوضع الحالى لفيروس كورونا، بالرغم من حجمه وطبيعته الاستثنائية، لن يؤدى إلى إمكانية التنصل الكامل من جميع الالتزامات التعاقدية، اليقظة مطلوبة من الجميع.


مواضيع متعلقة