ليبيا 2030.. قهوة بيضاء مع رئيس الوزراء محمود جبريل
- الحرب الأهلية
- الحياة السياسية
- الشرق الأوسط
- المجتمع الدولي
- الوقت الراهن
- الولايات المتحدة
- انتخابات حرة
- حلف شمال الأطلسي
- أحمد قذاف الدم
- أخيرة
- الحرب الأهلية
- الحياة السياسية
- الشرق الأوسط
- المجتمع الدولي
- الوقت الراهن
- الولايات المتحدة
- انتخابات حرة
- حلف شمال الأطلسي
- أحمد قذاف الدم
- أخيرة
فى خريف عام 1999 كنتُ ضمن من التقوا الرئيس الليبى معمر القذافى فى خيمته الفاخرة بمدينة سرت. تعرّفت فى هذه الزيارة على شخصيات كبيرة: الفريق أول محمد فوزى، وزير الدفاع المصرى الأسبق، والسيد سامى شرف، مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر، كما تعرّفت على الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى، ورئيس زامبيا كينيث كاوندا.. وآخرين.
استمعنا إلى خطاب الرئيس القذافى، كان خطاباً مطولاً وفارغاً فى آنٍ واحد. يتحدث كثيراً ولا يقول شيئاً. كان يتحدث عن حصار ليبيا وصراع الجماهيرية العظمى مع القوى العظمى، وكانت رؤية الزعيم للعلاقات الدولية أقرب إلى «دردشات» كبار السنّ فى شتاء القرى النائية، حيث تختلط الحقيقة بالخيال، والواقع بالأسطورة، وحيث يتكرر الحديث كل مساء من دون جديدٍ أو مفيد.
قال لى رئيس الوزراء الليبى الأسبق محمود جبريل: إن «القذافى» كان مهووساً بالقصص التاريخية. وكان يرى نفسه أكبر من ليبيا، فهو قائد أسطورى فى واقع محدود. ولطالما ردَّد على مسامع مساعديه: «أنا قائد بلا شعب، وفى مصر شعب بلا قائد». ولقد امتد شغفه بالتاريخ إلى تسمية أبنائه: سيف الإسلام، سيف العرب، هنيبال، المعتصم. وقد بذل جهداً كبيراً ليحصل على لقب «ملك ملوك أفريقيا»!
ويمضى محمود جبريل: كان «القذافى» يحاول أن يكون «مشهوراً» بين المشاهير. وقد قام بإلقاء أطول خطاب أمام الأمم المتحدة حتى يتجاوز خطاب الزعيم الكوبى فيدل كاسترو. كما أنه قام بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة حتى يتم تشبيهه بالزعيم السوفيتى خروتشوف.
فى زيارتى المذكورة إلى ليبيا تمت دعوتنا لحضور لقاء مع سيف الإسلام القذافى. لم يكن الابن بأفضل حالٍ من والده. بل كان لدى الوالد ما يمكن الاستماع إليه، أمّا «سيف الإسلام» فلا شىء يمكن أن يجذب الانتباه لما يقول. إنّه لا يملك حتى تلك الأساطير التى تدعو للفضول. ويرى كثير من أنصار «القذافى» أن «سيف الإسلام» كان وراء إسقاط النظام وإنهاء الدولة، ذلك أنّه قدّم مشروعاً بديلاً، وقاد جناحاً تحديثياً ضد الحرس القديم من رجال والده. ولكنه فى الواقع لم يقم سوى بهدم القديم دون القدرة على بناء ذلك الجديد.
قال لى محمود جبريل: «كان سيف الإسلام القذافى يرغب فى الإصلاح والتقدم، ولكنه لم يكن يقدر على ذلك. كانت قدراته الفكرية تساوى صفراً، وربما تحت الصفر. وحين دخلت معه فى مشروع التحديث الليبى، وعملنا رؤية «ليبيا 2025» ورؤية «ليبيا 2030» لم نصل معاً إلى شىء. لقد عمل فى الدراسات المستقبلية هذه أكثر من مائة خبير ليبى. ولمّا راح رئيس الوزراء ومعه عبدالرحمن شلقم إلى معمر القذافى، سألهما: ما هذه الأوراق؟. قالوا: هذه رؤية «ليبيا 2025». أخذها «القذافى» ثم قام بتمزيقها وإلقائها على الأرض، وقال: ألا يكفيكم الكتاب الأخضر؟!».
ثم واصل «جبريل» قائلاً: «كان القذافى يعتقد أنه فيلسوف، ومن ثم لا معنى لوضع أى رؤية فى حضوره، وأنه مفكر عالمى صاحب نظرية كبرى، ولا يجوز أن يفكر أحد فى حضرتِه. وما لم يكن أى بحث أو مشروع هو جزء من نظرياته وأقواله، فلن يكون له وجود. هذا إذا لم يُعاقب أصحاب تلك الرؤى على ما رأوْا. إنَّهُ أيضاً زعيم الثورة، هو الثائر الأول والثائر الدائم، ولا يمكن أبداً أن تقوم ثورة على الثورة، أو أن يناضل ثائر ضد الثائر. ومن هنا كانت صدمته لما وقعت أحداث الانتفاضة الليبية 2011. كان ذلك خارج قدراته العقلية، وفوق طاقته على الاستيعاب.
لقد أراد «القذافى» استدعاء الغرب حين هدد بمسح كل شرق ليبيا، أراد أن يكون الزعيم الثورى فى مواجهة «الناتو» لا فى مواجهة «الثوار».
ولد السياسى والمفكر الليبى محمود جبريل فى بنغازى عام 1952، تخرج فى جامعة القاهرة، وحصل على الدكتوراه من جامعة بيتسبرج الأمريكية. ومنذ عام 2007، عمل فى وظائف عليا فى عهد الرئيس القذافى. وكانت كلها تتعلق بالتخطيط الاستراتيجى، وقبل ثورة فبراير الليبية 2011 كان رئيساً لمجلس التخطيط الأعلى.
زرتُ الدكتور محمود جبريل فى مكتبه فى بناية «كوين سنتر» بحىّ مدينة نصر شرق القاهرة فى يوليو 2019، قبل أقل من عام من رحيله. كان شخصيةً مهذبة للغاية، يمتلك ثقافة واسعة. لم يحمل أىّ شىء من سمات النخبة القذافية، بل كان أقرب إلى مستوى النخب الحداثية العالمية الأكثر تعليماً وامتيازاً. ولقد فوجئت بحجم تشفّى خصومه فى رحيله، وكنتُ أظنُّ أن بقايا قيم عربية وإسلامية لا تزال لدى الفرقاء السياسيين فى منطقتنا.
كان من بين ما قاله لى محمود جبريل: «لقد تحدثت مع المشير خليفة حفتر، وقلت له: ليست لى أى طموحات سياسية. لن أترشح للرئاسة ولا غيرها. كل ما يهمنى ألّا تسقط ليبيا من بين أيدينا. وقد تحدثت مع جماعة الوفاق فى غرب ليبيا فى الأمر ذاته، ثم أطلقت مبادرة وطنية للحلّ. تحدثت مع مستشار ماكرون الذى وافق، كما وافقت إيطاليا، وقال لى المبعوث الأممى غسان سلامة: طالما وافقت فرنسا وإيطاليا أنا موافق. ولكن نائب وزير الخارجية الروسى بوجدانوف لم يرد على رسالتى. وكل ما أخشاه أن ينجح مخطط تقسيم البلاد. فقد تحدث سفيرا فرنسا وأمريكا مع القبائل أثناء الانتفاضة ضد «القذافى» عن تقسيم ليبيا. ورؤية التقسيم الغربى تقوم على أن هذه المساحة الكبيرة بهذا العدد القليل تمثل خطراً، وأنه لا يمكن السيطرة بدون التقسيم. وترى بعض دوائر الغرب أن ليبيا مساحة وثروة بلا سكان كثيرين، بينما محيطها الأفريقى لا يجد الموارد الكافية. ولذلك يمكن أن تكون ليبيا هى الهدف النهائى لهجرة الأفارقة، وليست الممر إلى هدفهم فى أوروبا، أىْ أن تصبح ليبيا نفسها دولة أفريقية غير عربية، حيث يصبح العرب بعد ذلك أقلية إثنية وسط الأغلبية الأفريقية».
كان الدكتور محمود جبريل يرى أن المشهد بكامله لا يدعو إلى التفاؤل، حتى الجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر كان «جبريل» يرى أن المكون السلفى فيه، وإن كان معادياً للإخوان، إلّا أنه سيشكّل خطراً كبيراً فيما بعد «ذلك أن السلفيين الليبيين قد ينقلبون لاحقاً. والحلّ ليس مواجهة الإخوان بالسلفيين، بل مواجهة المشروع بمشروع. ولا بد للمشروع الوطنى أن يكون إطاراً عاماً، وهياكل مؤسسية، إذ لا يمكن مواجهة التطرف فى الغرب بشخص واحد يجرى وضع كل الأوراق فى حوزته».
وبشأن القوى الكبرى، كان «جبريل» متشكِّكاً فى الدور الأمريكى، وكان يرى أن «روسيا لا تريد أن تدخل فتدخل وراءها أمريكا، وهى ترى أنه من الأنسب أن تنتظر فإذا ما جاء الحل لا يكون إلّا بمشاركتها. أمّا الصين فهى تترقب ما بعد العاصفة لتدخل طالبةً المشاركة فى إعادة البناء، وجنى المليارات».
إن ليبيا بلد رائع، وهو أيضاً بلد ثرى، وفى تقديرى.. فإن انقطاع مسيرة الملك الوطنى إدريس السنوسى إثر انقلاب الملازم أول معمر القذافى فى عام 1969 كان انقطاعاً للأمل، وتدميراً للثروة التى بدأت فى عصر النفط.
ينتمى الملك إدريس السنوسى إلى عائلة دينية ووطنية مرموقة، وقد قاد المرحلة الأخيرة من الكفاح الوطنى ضد الاستعمار الإيطالى من القاهرة وصولاً إلى طرابلس، ولما وقع انقلاب «القذافى» عاد إلى مصر فى ضيافة الرئيس جمال عبدالناصر، وبقى فيها مع زوجته الملكة فاطمة طيلة عهد الرئيس السادات وحتى رحيله فى عهد الرئيس مبارك عام ١٩٨٣.
عاش الملك السنوسى فى حى الدقى بالجيزة حياة هادئة، وقد ندم لاحقاً عدد من مؤيدى «القذافى» على خياراتهم الخاطئة. ولو كانت المملكة الليبية الصديقة لمصر قد واصلت طريقها لكان لليبيا وثروتها ومكانتها شأن آخر.
راح الرئيس القذافى يموّل الفوضويين فى أمريكا اللاتينية، والنقابيين فى أستراليا، بينما كانت ليبيا تعانى كل شىء. ولما رحل الزعيم لم يكن هناك جيش ولا شرطة ولا قضاء، كان الوطن كما كان قبل ألف عام، بعيداً للغاية عن حقائق الزمن ومعطيات العصر.
قال لى محمود جبريل: «إننى خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى جامعة القاهرة، وأعرف أنك أيضاً قد تخرجت فى الكلية ذاتها. إنك لن تتخيل مدى الحسرة التى تحاصرنى ونخبة جيلى لأننا لم نشهد الوطن الذى نتمنى. فلقد عشنا الجماهيرية العظمى ثم الحرب الأهلية.. مأساة تلو المأساة، وكأن ليبيا قد انتقلت من الكتاب الأخضر إلى الكتاب الأسود. لكننى آمل فى الشباب الليبى الذى يمكنه تصحيح المسار، وإعادة بلادنا إلى حركة التاريخ».
كان أكثر من فنجان من القهوة الليبية البيضاء قد انتهى بينما تدارُس المسألة الليبية لا يزال فى البداية.
رحم الله محمود جبريل وحفظ الله ليبيا.