دروس من الهجرة النبوية فى واقعنا المعاصر

حسين القاضى

حسين القاضى

كاتب صحفي

فى ظل واقع معاصر تسيطر على كثير من أفراده الكآبة والإحباط واليأس يأتى القرآن الكريم بشعار الهجرة: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»، موقف صعب، الرسول وصاحبه فى حصار، ضاقت عليهما الأرض بما رحبت، لا يفصلهما عن الأعداء إلا جدار من نسج العنكبوت، حزن وغم وكرب، خوف من أبى بكر، شعور بالخطر بلغ ذروته، سيوف الكفار فوقهما، فكان المخرج «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»، أى إذا تعرضت لموقف عصيب فلا تدخل فى نوبة من إحباط وكآبة وحزن ويأس وفقدان ثقة فى الذات، بل ارفع شعار: (إِنَّ اللَّهَ معى)، وسيحدث لك تحوُّل هائل فى المشاعر.

 

كان أول عمل قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أسس المسجد، وشارك أصحابه فى حمل الحجارة، وقد رغب إليه أصحابه أن يقوموا بالعمل نيابة عنه فرفض، والمسجد له دور عظيم من أهمية أنه يجب أن يرقى بالمسلم وروحه ووجدانه وسلوكه، ولا تكون صلاة المسلم مجرد ركعات يقضيها وينصرف، بل لا بد أن تكون أخلاقاً تسرى فى معاملاته، تكون أخلاقاً تمنع المصلِّى من الإسراف والرشوة والخوض فى الأعراض، ورفع قيم المودة والإخاء والعدالة، ونشر اللين والهدوء والسكينة، ذلك هو دور المسجد، أما أن يكون المسجد أداة للنزاع ونشر التزمُّت والتشدد، والتعسير على الناس فى حياتهم واستخدامه سياسياً فكل ذلك خروج عن أهدافه، ويرتبط بهذا الدرس أن النبى الكريم شارك أصحابه فى العمل، ولم يميز نفسه عنهم، وأياً ما تكون صورة تنفيذ هذا الدرس فى عصرنا فالمقصود هنا تلك الروح التى يجب أن تسود بين الجميع فى مجالات العمل المختلفة.

 

نوم الإمام على -كرم الله وجهه- على فراش الرسول الكريم، كان لتنفيذ مهام أهمها رد الأمانات، مع أنها أمانات للكفار الذين آذوه وسبوه، والمقصود من هذا التصرف الفصل التام بين حقوق الناس وبين معتقداتهم الدينية، فالخلاف مع شخص لا يمنعك من إنصافه، وحصوله على حقوقه، فلا فجور فى الخصومة.

 

يحدثنا النبى الكريم عن رجل هاجر ليقابل معشوقته ويتزوجها: «فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، فالبيان النبوى يرشدنا إلى أنك إذا أردتَ أن تهاجر من أجل محبوبتك أو جماعتك أو تنظيمك أو أهدافك أو رغباتك فالله هو الرقيب والحسيب والمطلع عليك، ولكن المحظور الممنوع أن تخلط أهدافك ورغباتك هذه بالإسلام، فيظن الناس أنك تخدم الإسلام، وأنت فى الحقيقة تخدم أهدافك وجماعتك وتنظيمك ورغباتك!!

 

إن بعض التنظيمات قامت بقياسٍ مغلوط بين واقع الهجرة وواقعهم اليوم، فعاشوا بوهم أن السيرة النبوية بأحداثها تتكرر معهم، فأوهموا الناس أن وقائع التعذيب والتضييق والفرار من الأوطان الذى تعرض له الرسول الكريم وصحابته، إنما يقع لهم على اعتبار أنهم (أهل الحق) وأن خصومهم (أهل الباطل).

وهذا تدليس ومغالطة، لأن الهجرة كانت لأجل التوحيد، وليس لأجل قضايا أيديولوجية سياسية وتنظيمات خاصة أو بحث عن حكم، وأن الرسول وأصحابه لم يتعرضوا للمحنة بسبب فشلهم وسوء تخبطهم وترتيبهم وسلطوية سلوكهم السياسى، واستعلائهم، واعتمادهم على الحماس الطائش وعدم تقديرهم للمواقف والعواقب، وعدم إدراكهم للواقع، ولم يقعوا فى مِحَن وابتلاءات بسبب خطوات غير مدروسة، وغير واعية، وغير دقيقة ثم يقول «أنا فى محنة».

إن حالة الرسول الكريم فى الهجرة لم تكن فشلاً أعقبه تضييق من خصومه، بل كانت: (ابتلاء أعقبه نصر وتوفيق)، وهذه سُنة الله مع كل صادق أمين، أما ما نراه اليوم فهو: (فشل أعقبته هزيمة وخذلان)، وهذه سُنة الله مع كل فاشل، فلا يصح إسقاط هذا على هذا.