ذكرياتى مع الرئيس جمال عبدالناصر (3)

حمدى السيد

حمدى السيد

كاتب صحفي

أخذت أتحدث مع الفريق فوزى ونحن فى انتظار اجتماع الرئيس عبدالناصر مع ضباط الصف الليبيين بدون حرج أو مقدمات، وسألته عن الجبهة والعبور وعن أشياء أخرى كثيرة، وكان أحمد البنهاوى قلقاً جداً من المناقشة مع شخص حاد الطبع مثل الفريق فوزى.

وأخيراً خرج عبدالناصر من الاجتماع وتوجه مباشرة لمصافحتى وقال لى: لم أعلم بوجودك من قبل، وأنا آسف على تعطلك أنت وزميلك عن عملكما، وذكرت له أن «عملنا هو رعايتكم وأنه أفضل عمل نقوم به لأنك فى قلوبنا وعقولنا»، وأمسك بيدى، وصرت بجواره حتى دخلنا القاعة، وجلست على موقعى حول سفرة العشاء.

أثناء العشاء كان الرئيس منشرحاً ودائم السؤال لصلاح الشاهد عن الكريستال والفضية وأطباق السيفر والنصح بالمحافظة على هذه الثروات وعدم التفريط فيها، ذكّرنى البعض بأن هذه أول مرة يرى الرئيس يبتسم بعد كارثة 67.

أثناء العودة فى الطائرة لبست قميصاً وبنطلوناً، وأعلم أننا نجلس فى مؤخرة الطائرة ولا نخرج إلا بعد أن ينزل الرئيس ليسلم على مستقبليه، ولكن بعد قيام الطائرة طلبنى الرئيس لمقابلته، ذهبت لأسلم عليه وأنا فى غاية الكسوف، طلبنى كى يشكرنى أنا وزميلى ويتمنى لى التوفيق والسلام، وأنا أعربت عن سعادتنا بصحبته وقيامنا بواجبنا القومى والإنسانى.

المرة الثانية طلبنا للسفر إلى ليبيا بمناسبة جلاء القوات الأمريكية عن قاعدة ويلس weeles ودعوة كل رؤساء الدول العربية، وحضرنا مع الرئيس، وكان هناك نور الأتاسى، رئيس جمهورية سوريا قبل انقلاب حافظ الأسد، وأحمد حسن البكر، ومعه صدام حسين من العراق، ثم على عبدالله صالح من اليمن، ولا أذكر أحداً من السعودية، ولكن باقى الدول حاضرة.

بعد انتهاء اللقاء طلبنى الرئيس وكان معه نور الدين الأتاسى، وقال: هذا حمدى السيد من العلماء والنشطاء، وأنا أعتز بيه كثيراً.. قلت: هذا وسام على صدرى، ربنا يحميك يا ريس. رفعت رأسى عالياً وشعرت بالطمأنينة والإحساس بالأمان، ذلك اليوم انتظرنا لقاء بين الأتاسى والرئيس عبدالناصر والذى استمر عدة ساعات، وكان معنا السفير الدكتور سامى الدروبى، سفير سوريا فى مصر، وله خطاب شهير أمام الرئيس عبدالناصر عند تقديم أوراق اعتماده يتباكى فيه على الوحدة، ويكاد يلعن السبب فى فشلها. فى ذلك اليوم قال السفير إن الرئيس الأتاسى حاول إقناع عبدالناصر بالسفر إلى دمشق وإعلان الوحدة مرة ثانية من الجامع الأموى حتى يقطع الطريق على حافظ الأسد الذى كان على وشك إعلان الانقلاب، ولكن الرئيس عبدالناصر رفض وقال: لا يُلدغ المؤمن من الجحر مرتين، وعدنا بسلام إلى القاهرة.

كانت هناك زيارات أخرى إلى السودان، عيد 25 مايو، وكانت الحرارة لا تطاق، وقضيت يومين بدون نوم تقريباً، كذلك ذهبنا إلى أسوان باجتماع الرئيس عبدالناصر مع الرئيس تيتو، وحاول المختصون وضع الأطباء فى فندق درجة ثانية، وأنا هددت بسفر الأطباء جميعاً وترك الاجتماع. أعطونا فى النهاية فندق كتاركت القديم، ونعمت بحجرة ملكية كان ينزل فيها الملك فاروق.

أخيراً يوم 27 سبتمبر عدت من اجتماع علمى من لندن، وشعرت بأن هناك حركة كبيرة وعلمت أن عبدالناصر دعا لاجتماع الرؤساء العرب لمحاولة التدخل لإنقاذ الفلسطينيين من معارك التصفية الجسدية والمذابح التى يقوم بها الجيش الأردنى وبمساعدة من الإسرائيليين وبعض القوى الأخرى، وقضى عبدالناصر الأيام الأخيرة فى تعب جسمانى ونفسى كبيرين، وأثناء توديعه الشيخ صباح، حاكم الكويت، شعر بضيق وألم بالصدر، وطلب نقله إلى المنزل، وحضر أطباؤه، وتوقف القلب، وبدأ الحضور فى البكاء والعويل، ولم يتذكروا وجود جهاز القلب إلا بعد نصف ساعة من توقف القلب، ووجدوا الطبيب الشجاع المنوط به الجهاز واقفاً أمام الباب فى انتظار من يطلبه. دخل أخيراً وأعطى صدمات للقلب، وكان جسد عبدالناصر يتحرك من الصدمات، واعتقد الحضور أنه قد استجاب للعلاج، ولكن لا فائدة. طلبنى محمد أحمد: أرجو حضورك بسرعة نظراً لوجود كارثة صحية. تركت كل شىء وأسرعت بالحضور فى عدة دقائق، وكان معى جهاز الصدمات الخاص بى أحمله معى دائماً، وصلت إلى مكتب السيد محمد أحمد، ووجدت الجميع يبكون، وسمعت صراخاً من الدور العلوى، وقيل: البقية فى حياتك مات البطل، مات الزعيم. أسود يوم فى حياتى، ثم كانت الجنازة التاريخية التى لم تحدث فى أى بقعة فى العالم. أختم هذه المقالة بالنشيد الذى ردده المعزون.

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين الوداع

ثورتك ثورة كفاح عشناها طول السنين الوداع

انت عايش فى قلوبنا يا جمال الملايين الوداع

انت ثورة انت جمرة نذكرك طول السنين الوداع

انت نوارة بلدنا واحنا عذبنا الحنين الوداع

انت ريحانة زكية لكل الشقيانين الوداع

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين الوداع.