ذكرياتى مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر (2)

حمدى السيد

حمدى السيد

كاتب صحفي

عدت إلى الجامعة بعد قرار السيد وزير الحربية محمد فوزى إنهاء التكليف فى نهاية عام 1968. من حسن الحظ أن رئيس القسم المزعج ترك المستشفى وسافر أستاذاً زائراً فى إحدى الجامعات، وجاء الدكتور على المفتى عميداً للكلية، رجل واسع العقل ونشيط ومتفهم لمشكلة قسم جراحة القلب، وافق على أن يوفر لنا مكاناً جديداً بالمستشفى. قام المقاول العظيم رئيس ومنشئ شركة النصر للمقاولات المهندس حسن علام، والذى رأس شركته بعد التأميم، بإعداد قسم للرعاية المركزة وقسم حديث لجراحة القلب، بما فى ذلك حجرتان للعمليات تليقان بجراحة القلب المفتوح على نفقته الخاصة، وحصلت على دعم من وزارة المعارف و15 ألف دولار من منظمة الصحة العالمية.

كنت دائم القلق على صحة الرئيس، لأنه كان مريضاً بالسكر ويدخن، وفى خبرتى الطويلة لا يوجد مريض بالسكر ويدخن إلا ويصاب بتصلب بالشرايين بالقلب أو المخ أو الأطراف، وكان الرئيس فعلاً مصاباً بضيق شرايين الساقين، ولا يستطيع المشى لمسافة طويلة، أو الوقوف لفترة طويلة، والتوتر الدائم والقلق على مستقبل الوطن يعرّضه للأسباب المؤدية إلى ضيق شرايين القلب بما يُعرف بالذبحة الصدرية، لذلك كنت قد نصحت بتوفير جهاز حديث ممكن أن يتابع حالة القلب ويعطى شحنات كهربائية لإيقاف الاضطراب فى ذبذبة القلب فى الأذين أو البطين، وكذلك متابعة الحالة الصحية، واستخدامه فى حالة توقف القلب. وقمت بتدريب أحد شباب الأطباء العاملين معى فى مستشفى المعادى، وتمت إعارته إلى رئاسة الجمهورية ليكون حارساً على هذا الجهاز الثمين واستخدامه عند اللزوم.

هذه الجملة الاعتراضية لعلها يستفيد منها كل مريض للسكر ومدخن، لن يفلت مريض السكر المدخن من مضاعفات بالدورة الدموية قد تؤدى إلى الوفاة المبكرة أو العجز الكلى أو الجزئى.

كانت رئاسة الجمهورية عند سفر الرئيس خارج القاهرة تطلب أن أرأس فريقاً طبياً لرعاية الرئيس فى حالة حدوث كوارث صحية، ولم يكن الرئيس يعلم شيئاً عن ذلك، ولهذا كنا نعامَل فى بعض الأحيان كأعضاء متطفلين على حرس الرئاسة ولا نُعطَى حقنا من الرعاية والاهتمام، وكنت أرفع صوتى للاحتجاج وأحصل على المعاملة اللائقة.

بعد تركى لمستشفى المعادى، وإنهاء تكليفى بالقوات المسلحة، كانت علاقتى بالرئيس عبدالناصر من خلال مصاحبتى له فى زياراته الداخلية والخارجية، وكان ترتيب الفريق الطبى رقم 2 أو 3 فى القول، وكان الفريق الطبى يشمل على الأقل الأستاذ الدكتور العالم المغفور له أحمد البنهاوى، أستاذ جراحة المخ، وفى بعض الأحيان أستاذ العظام.

كان الأطباء المعالجين الدائمين، فكان الأستاذ الدكتور منصور فايز أستاذ الأمراض الباطنية، والأستاذ الدكتور على البدرى كبير أساتذة السكر، والأستاذ الدكتور زكى الرملى أستاذ القلب الكبير والظهير فى حالات الكوارث الصحية فريقاً طبياً كبيراً أو صغيراً، حسب طبيعة النشاط الداخلى أو الخارجى للرئيس برئاسة حمدى السيد.

أذكر هنا أول زيارة لليبيا، التى حدثت فيها ثورة الفاتح من سبتمبر بقيادة القذافى عام 1969. كان الرئيس عبدالناصر يحضر مؤتمر الزعماء الإسلاميين فى المغرب، ولم يكن سعيداً بالمؤتمر، وسمعنا أنه حدث اشتباك كلامى بينه وبين شاه إيران، كان ذلك فى ديسمبر من عام 1969، وكان سيزور ليبيا فى طريق عودته للقاهرة، وطُلب منى زيارة ليبيا قبل موعد وصول الرئيس للاطمئنان على الوضع الصحى ومدى استعداد السلطات الصحية للتعامل مع أى كارثة صحية.

سافرت أنا وزميلى الدكتور أحمد البنهاوى، أستاذ جراحة الأعصاب، وتجولنا فى مستشفيات طرابلس وبنغازى، ووجدنا عدداً من الأجهزة الجديدة لا تزال فى الصناديق، قمنا بتشغيلها، واستُقبلنا استقبالاً حافلاً، وكان هناك عدد من الأطباء الليبيين خريجى كليات الطب المصرية.

وفى اليوم الموعود ذهبنا للمطار، وكان فى استقبال الرئيس حشد من المواطنين يربو على مائة ألف مواطن بالسيارات والأوتوبيسات. حضر الرئيس وظل واقفاً فى سيارة مكشوفة والآلاف المؤلفة حوله. كان ترتيب سيارتنا رقم 3 فى الحشد. بعد فترة وجيزة تدخلت سيارات المواطنين وأصبحنا رقم مائة وأكثر، والمسافة بين المطار وقصر الرئاسة حوالى 20 كيلو، قطعناها فى 6 ساعات، والرئيس -يا عينى- واقف على ساقية اللتين تعانيان من قصور الدورة الدموية. الفريق محمد فوزى أصيب بالإغماء من نقص الأكسجين بسبب الزحام، وحملوه على الأذرع حتى يحصل على نصيبه من الأكسجين.

كان يوماً تاريخياً، وكان شبيهاً بيوم جنازة عبدالناصر. صباح اليوم التالى انتقلنا إلى بنغازى، وكانت هناك منافسة بين أهالى طرابلس وأهالى برقة، ووصلنا أخيراً إلى قصر ولىّ العهد، حيث ينزل الرئيس. فى نفس اليوم أُبلغنا أن «الرئيس سيذهب إلى الاستاد ليخاطب الجماهير، عليكم بالوجود الساعة 2:30 بعد الظهر». ذهبنا أنا وزميلى ووجدنا أن الرئيس لا يزال فى قاعة الغداء، واجتمعنا نحن الأطباء مع بعض الحرس فى الغرفة المقابلة. وبعد فترة جاء من يقول إن الرئيس قادم وسيصلى العصر فى الدور الأول، ونحن بجوار السلم. وفى لحظة اختفى الجميع من حولى، أما أنا فلم أتحرك لأننى لا أعلم سبباً لذلك. جاء الرئيس مسرعاً وصعد أربع درجات ثم لاحظ أن هناك شخصاً واقفاً وهو أنا، حيانى برأسه، ورددت التحية بكل احترام. كنت ذاهباً للاجتماع وأنا بالبدلة والكرافت وأشعر بالاختناق من الحر، ولكنى وجدت الرئيس يلبس قميصاً وبنطلوناً.

انتهى اللقاء وعدنا للفندق الساعة الرابعة، وقال صلاح الشاهد: الرئيس يدعوك أنت وزميلك لحفل عشاء اليوم. أول مرة تحدث، وصلنا فى الموعد، الرئيس مجتمع بضباط الصف بالجيش الليبى، علينا الانتظار، كنت أجلس بجوار الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية، وهو الذى أنهى تكليفى بعدما عُرضت عليه مذكرة كتبتها للرئيس عما فعله الوزير فوزى فور تسلمه لوزارة الحربية، حيث أصدر قراراً بنقل عبدالحميد مرتجى، قائد مستشفى المعادى، وسبب تقدمه وعلو شأنه، ثم قام بتشتيت معظم قيادات العمل الطبى الناجحين، والسر تصفية حسابات مع المستشفى، حيث عندما جاء مع الفريق عبدالمنعم رياض بصحبة المشير عامر بعد محاولته الانتحار، ونصح الأطباء بضرورة دخوله المستشفى لأنه قد يحاول مرة أخرى، قام بدفعه داخل السيارة، وقال إنه يتمارض وعامله بخشونة أثارت زملاءنا من الأطباء، وعندما حدث تحقيق فى وفاة المشير عامر بناءً على توجيهات الرئيس وبإشراف وزير العدل شهد الأطباء بذلك، واعتبر الفريق فوزى هذا ثأراً بينه وبين المستشفى، وقام بتشتيت معظم القيادات، بما فيهم رئيس المستشفى.

تطوعت بصفتى صاحب خبرة بالكتابة للرئيس، راجعت دفتر الدخول والعمليات منذ إنشاء المستشفى وأدائه المشرف، واقترحت على الرئيس الإبقاء على هذه القيادات التى حققت ذلك الإنجاز العظيم، وأصبحت للمستشفى سمعة طيبة على المستوى المحلى والعربى والأفريقى، واقترحت أيضاً إنشاء الأكاديمية الطبية العسكرية (وليست كلية طب) لضمان الاحتفاظ بالأطباء المؤهلين بالدكتوراه أو الزمالة لحين بلوغ سن المعاش، وليس التخلص منهم فى سن مبكرة. أرسلت المذكرة للسيد أمين هويدى، وزير شئون مجلس الوزراء، ورئاسة الجمهورية، والذى رحب بالمذكرة، حيث كان بينه وبين الفريق فوزى نوع من التوتر، حيث إن فوزى أخذ موقع الحربية من أمين هويدى. لسوء الحظ أن عبدالناصر كان مشغولاً بأحداث على الجبهة ولم يكن فى وضع يسمح ببحث مشكلات مع وزير الحربية. وصلتنى مكالمة تليفونية من الفريق أول عبدالمنعم رياض: عندى رسالة لك من السيد الوزير، أمامك إلى الساعة الثامنة صباح باكر أن تقرر الدخول إلى الجيش العامل أو ترك التكليف، لأنه لا تكليف بعد ذلك فى القوات المسلحة.