«صاحب المقام»... فيلم عن الروحانيات لكن بلا روح

علا الشافعى

علا الشافعى

كاتب صحفي

لم ألمح «سيدى هلال» ولا «أبو شوشة» فى فيلم إبراهيم عيسى

لا يزال فيلم «صاحب المقام» يثير الكثير من الجدل، وبالطبع تلك حالة صحية، فإحدى مهام الفن تحريض العقل على التفكير بعيداً عن التلقى المجانى. ولكن هل الجدل وحده كافٍ لنقول إننا أمام فيلم جيد ومصنوع فنياً بشكل يُشبع الروح والعقل معاً، وماذا يتبقى فى ذهنك وعقلك وروحك بعد مشاهدة الفيلم؟

بعد مشاهدة الفيلم مرتين وإلقاء نظرة على الفيلم الإسرائيلى «مكتوب»، والذى اتُّهم المؤلف إبراهيم عيسى بسرقته من قبَل البعض، وجدت أن «صاحب المقام» يكاد يتطابق مع الفيلم الإسرائيلى فى كثير من التفاصيل، والمدهش أن الفيلم الإسرائيلى (الذى يروج لسياسة الاستيطان التى ينتهجها الاحتلال الإسرائيلى، إذ إن الأحداث كلها تقع ما بين القدس المحتلة ومستوطنة كريات شمونة) يتفوق فى بنائه الدرامى على فيلم عيسى. وأقولها بضمير مرتاح أيضاً: لم يتبقَّ فى ذاكرتى من «صاحب المقام» سوى لقطات بسيطة من الفيلم، لممثل أجاد كضيف شرف، أو بطل الفيلم «يحيى» آسر ياسين، وصوت وائل الفشنى فى بعض المشاهد، وتلك مفارقة درامية مدهشة، ففيلم يناقش تلك القضية الروحانية كان جديراً بأن يحفر فى الوجدان (راجع بذاكرتك كم الأفلام التى قدمتها السينما المصرية على مدار تاريخها بمهارة وحرفية، وكيف أنها ساهمت فى تشكيل جزء كبير من ذاكرتنا وروحنا، ولا نمل من مشاهدتها أبداً رغم أننا نحفظ أحداثها عن ظهر قلب، وذلك ببساطة لأنها كانت أفلاماً أصيلة ومصنوعة بإخلاص)، ولكن يبدو أنه كُتب علينا أن نرضى دائماً بأقل القليل، فى هذا الزمن الضنين فى كل شىء.

فى محبة أصحاب المقامات

الشفاعة والتبرك بأولياء الله الصالحين ليست أمراً مقصوراً على الثقافة الإسلامية، بل إنها فى حضارات كثيرة، تختلف الصور وتتعدد ولكن المعنى واحد، ورغم الاختلافات الدينية حول هذا الأمر، إلا أنه لا ينتقص من إيمان أحد. من منا لم يقم يوماً بزيارة ضريح من الأضرحة، من منا لم يشعر بارتباط روحى غير مفهوم وليس له مبرر عقلى أو منطقى بضريح «أم هاشم»، أو السيدة نفيسة، أو سيدنا الحسين، وغيرهم من آل البيت أو أولياء الله الصالحين.

والارتباط بالمقامات، وأضرحة أولياء الله الصالحين وزيارتها، يُعد جزءاً أصيلاً فى الوجدان المصرى. وفى ظنى أنه يصعب أن تكون هناك قرية على مستوى محافظات مصر لا يوجد بها مقام، أذكر فى قريتنا كان هناك مقام «سيدى أبوشوشة» الذى كنا نذهب كل خميس إليه لنضىء الشموع، وفى القرية المجاورة لنا كان هناك الشيخ أحمد سابق، صاحب الجلباب الأبيض والعباءة الخضراء، والذى كان يجوب القرى حاملاً سبحته الطويلة، و«كلوب» لإنارة الطريق أمامه، خصوصاً أن الكهرباء كثيراً ما كنت تقطع عن القرى فى هذا التوقيت، وكان هناك مولد سنوى لسيدى أحمد، إضافة إلى مولد سيدى هلال، صاحب المقام الأشهر فى قرية الرمالى (وهى قرية الكاتب وتجاور قريتنا) التى تقع بمركز قويسنا بمحافظة المنوفية، والذى كان يأتيه الناس من كل المحافظات المجاورة، وكان يوم مولده بمثابة العيد، حيث ترك فى وجداننا الكثير من الصور التى يصعب نسيانها «صفوف الذكر، أصوات المنشدين، البائعين، المراجيح، أصوات الباعة المتداخلة، ضحكات الأطفال، حكاوى الكبار، حتى الحلوى المميزة التى كنا ننتظر المولد لشرائها».

ذلك التراث والارتباط المحفور فى الوجدان شىء لا يستطيع أحد إنكاره، وللأسف لم أره فى «صاحب المقام» رغم أن الكاتب بالـتأكيد قد عاش تلك الأجواء. وأيضاً، فعلى صنّاع العمل أن يسألوا أنفسهم: ماذا نريد، هل علينا أن ندعم تلك المفاهيم، هل علينا أن نكرس لها، أم مثلما فعل الأديب والروائى العظيم يحيى حقى فى «قنديل أم هاشم»، حيث انتصر للعلم مع عدم إنكار ذلك الجانب ومحاولة قهره ونفيه؟.

أيضاً، ماذا عن الرؤية البصرية للفيلم، هل كانت على قدر الموضوع وعمّقت تلك المشاعر، أم أنها رؤية لم تحمل سوى القشور فقط، ولا أعرف كيف لفيلم يتحدث عن الروح أن يخلو منها؟ حتى لو كان يهدف إلى فكرة التصالح مع الشفاعة، والتى هى فى ظنى لا تحتاج إلى تأكيد، فنحن بالفعل نعيش تلك الحالة من التصالح، أم أنه الشكل الجديد للإسلام الذى يحاول مؤلف الفيلم الترويج له؟.

تلك التساؤلات وغيرها تستحق أن تُطرح ونناقشها بعيداً عن الترويج للفيلم لأنه فقط بعيد عما تقدمه السينما من أفلام تجارية، أو كما يقول البعض أنه أول فيلم «صوفى»، وتلك مقولة تثير السخرية حقاً، لأنه لو أن فيلم «صاحب المقام» تم تصنيفه هكذا فماذا عن فيلم «الشحات» المأخوذ عن نص أدبى للعبقرى نجيب محفوظ، وقام ببطولته الفنان محمود مرسى، وأيضاً فيلم «قلب الليل» للنجم نور الشريف والمأخوذ أيضاً عن رواية لنجيب محفوظ؟! إجمالاً، نستطيع أن نصنف أجزاء من ملحمة الحرافيش كنص أدبى وسينمائى يحمل هذا الجانب الصوفى فى صياغته وبعمق شديد.

التجربة الأولى

لا يستطيع أحد أن ينكر أن فيلم «صاحب المقام» سيسجل فى التاريخ كأول فيلم يُعرض على منصة إلكترونية وأول إنتاج مصرى يتم تسويقه كاملاً على منصات السينما الإلكترونية دون انتظار العرض التجارى (من المفترض أن يُطرح فى دور العرض هذا الأسبوع)، فالفيلم أُنتج خصيصاً للعرض على منصة «شاهد»، وهى تجربة تستحق الإشادة بصنّاعها المنتج أحمد السبكى وشركة «روتانا ستوديوز» اللذين أقدما على تلك المغامرة فى الوقت الذى قرر فيه معظم المنتجين تأجيل طرح أفلامهم إلى أجل غير مسمى بعد انتشار جائحة كورونا التى أدت إلى إغلاق شاشات العرض لمدة أربعة أشهر قبل العودة مؤخراً للعمل بنسبة 25 فى المائة من طاقتها الفعلية، ولكن هل يشفع هذا لما يوجد بالفيلم من أخطاء، هل يغفر أننا أمام صور نمطية وكليشيهات سبق أن شاهدناها مراراً وتكراراً فى العديد من الأفلام المصرية؟! كما أن الفيلم لا يحمل أى قدر من الدهشة أو المفاجآت، فكل أحداثه تسير فى إطار المتوقع، وذلك ضد منطق السينما وصناعة الفن من الأساس، رغم أنه يخلو من اللغة الخطابية ذات الطابع المدرسى التى كانت غالبة على فيلمى إبراهيم عيسى السابقين «مولانا»، و«الضيف».

يحكى فيلم «صاحب المقام» عن رجل الأعمال «يحيى»، آسر ياسين، الذى لا يعرف سوى لغة المال، فالمشاعر ليس لها مكان فى حياته حتى عندما يتعلق الأمر بابنه وزوجته «راندا»، أمينة خليل، لذلك لا يتردد فى هدم مقام «سيدى هلال» لبناء كمبوند استثمارى ضخم، مع شريكيه حليم وحكيم، يجسدهما بيومى فؤاد فى إشارة واضحة «للخير والشر بداخل كل إنسان فينا»، وهى صورة شديدة السذاجة سينمائياً، حليم الذى يؤيده فى كل خطوة وتغلب المصالح المادية على كل قراراته، «حكيم» الذى يحذرهما من خطوة هدم المقام التى قد تقلب حياتهما، وبالفعل تنهال الخسائر على الشركة، ويزداد الأمر سوءاً بمرض زوجة يحيى ودخولها فى غيبوبة نتيجة نزيف فى المخ، وهنا يبدأ يحيى رحلته مع إعادة الروح إلى حياته من خلال زيارة الأضرحة والمقامات، وهو الاستهلال الذى أخذ كثيراً من وقت الفيلم، وبالطبع الإيقاع مسئولية المخرج، حيث تعثرت بداية الفيلم وطال الدخول إلى عمق الفكرة الأساسية التى جاءت على لسان بطل الفيلم يحيى.. آن الأوان أن يرد الإمام الشافعى على خطابات المستضعفين.

ولم يخلُ البناء الدرامى وشكل السرد من النمطية طوال أحداث الفيلم تماماً مثل عادة إبراهيم عيسى فى أفلامه السابقة، ويكفى مشاهد ظهور النجمة يسرا فى دور «روح» المتعددة الصور والظهور، والتى جاء تنفيذها شديد السذاجة على المستوى الفنى، وهو ما كرّس الإحساس بأن تلك المشاهد مقحمة.

ومع بداية الرحلة ومحاولة يحيى تحقيق أمنيات المستضعفين المتروكة فى خطابات عند مقام الإمام الشافعى (رمز الوسطية) وتحمل الخطابات قصصاً إنسانية لمجموعة من البسطاء والضعفاء الذين يمتلكون أحلاماً وآمالاً إما بطلبات التوبة والعفو أو بعودة وشفاء الأبناء أو الاحتياج للمال، وهذا الفصل من الفيلم كان ينبغى أن تكون صياغته الدرامية مترابطة، وتصب فى صالح الخط الرئيسى لدراما الفيلم، ولكن بنظرة متأنية سنجد أنه يسهل تماماً مونتاج الكثير من اللقطات والاستغناء عنها دون أن يمس ذلك بسياق الفيلم وتطوره، فمثلاً ماذا لو اقتصرت المشاهد على قصة إبراهيم نصر وابنه المفقود، أو إنجى المقدم وابنتها التى توفيت بمرض نادر؟! تماماً مثل مشهد زيارة يحيى لإحدى الكنائس وصياغة المشهد درامياً وبصرياً، وهو المشهد الذى لم نفهم سياقه ولم يتم التمهيد له وأيضاً طريقة التنفيذ التى كانت تهدف لإثارة الضحك وهو ما لم يحدث، بل إن حذف المشهد كاملاً لن يؤثر فى شىء، وكان أداء الممثلين الذين ظهروا كضيوف شرف عاملاً مؤثراً فى ظهور هذا الجزء ومنهم فريدة سيف النصر، وريهام عبدالغفور التى قدمت فى مشهدين فقط أفضل أداء، وكذلك إنجى المقدم، والراحل إبراهيم نصر، واللذين تحملا عبء نواقص الفيلم على مستوى الصياغة الدرامية والبصرية.

«صاحب المقام» ليس أفضل أعمال المخرج محمد العدل، وأعتقد أنه كان عليه أن يكون عنده رؤية بصرية كاملة للفيلم وزوايا التصوير والإضاءة مع مدير التصوير لأن مشاهد الدخول إلى ساحة الحسين، ثم المقام وغيره من المقامات كانت الصورة فقيرة للغاية كنا نحتاج فيها إلى كاميرا شديدة التمهل والتأمل للوجوه والأماكن، ومن اعتاد زيارة تلك الأماكن يشعر بالفارق الشديد، حيث جاءت المشاهد فقيرة وتفتقد الروح، وخير دليل «مشهد الذكر فوق سطوح منزل إبراهيم نصر» الذى جاء شديد الضعف بصرياً، وأيضاً الموسيقى التصويرية التى كانت تحتاج لتوظيف أكثر درامية وفنية بعيداً عن وجودها الكثير والكثيف فى معظم المشاهد. فيلم «صاحب المقام» كان يحتاج لما يُعرف بالصمت الذى يرتبط بحالة السكينة والصفاء المرتبطين بدخول تلك الأماكن.

وقد أتفهّم جيداً رحلة يحيى بطل الفيلم وكيف أثرت فيه وغيرت منه، على المستوى الإنسانى، ولكن «مورال» الفيلم وما قام به البطل فى نهاية الأحداث من إعادة بناء المقام مما يصعب تقبله من كاتب المفترض أنه محسوب على تيار التنوير.