التضامن العربى.. قبل الوداع الأخير
بين الحين والآخر تخرج دعوات من مسئولين عرب ومثقفين تطالب باستعادة التضامن العربى وتفعيل معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى، التى صدقت عليها الجامعة العربية فى أبريل 1950، ولم تطبق من قبل. وينادى البعض بالسعى نحو استعادة نوع من القيادة العربية الجماعية لتنشيط العمل العربى الجماعى ومواجهة التحديات والتهديدات التى تواجه الدول العربية كلاً على حدة، وأخيراً نشطت حوارات فكرية حول هذه الدعوات، لكنها دارت فى غرف حبيسة، ولم يكن لها تأثير يُذكر على الحوار العربى العام. بل ما يحدث فعلاً بين مجتمعات عربية وبعضها، كما هو الحال فى مواقع التواصل الاجتماعى، يدفع إلى ترسيخ التباعد العربى العربى وإثارة الكراهية المتبادلة، وليس العكس.
تعكس مثل هذه الدعوات مدى التدهور الذى أصاب منظومة العمل العربى المشترك، وقصور التفاعلات الرسمية وحدها فى احتواء تلك المخاطر والمحافظة على حد أدنى من التفاعلات العربية الصحية رسمياً وشعبياً، كما تعكس المدى الخطير الذى يلعبه ناشطون سياسيون وبعض برلمانيين وإعلاميين، سواء كانوا معبّرين عن قناعات ذاتية وشعوبية، أو مجرد دُمى يتم توجيهها من وراء حجب لصب المزيد من الزيت على نار تجتهد قلة عروبية فى إخمادها قبل أن تتحول إلى حريق يلتهم الجميع بلا استثناء. وفى كلتا الحالتين فإن النتيجة واحدة، وهى ارتفاع مستوى الغضب الشعبى المتبادل، ما يحد من إمكانية احتواء المخاطر الجماعية، وانغماس كل دولة عربية فى محاولات النجاة الفردية، والتى تتحول بعد حين إلى مصيدة يتخبط فيها الكثير من الأقدام، وتضيع معها البوصلة العربية لصالح بوصلة انتهازية واستعمارية وشعوبية وبمظلات شتى إيرانية أو تركية أو إثيوبية.
طموحات القوى الإقليمية، ومن ورائها مطامع وخطط أوروبية وأمريكية وصينية وروسية، ليست هى الأساس، فكل الدول تسعى لتحقيق مصالحها على حساب الغير. وإنما الأساس هو تخبط السياسات العربية ونزع المبادئ العروبية منها نزعاً كلياً أو جزئياً، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام أطماع ومؤامرات القوى الإقليمية والدولية، والتى طالما خططت وتآمرت واستقطبت الضعفاء والأزلام والتابعين والخونة من بنى العرب لهدم كل معانى وأسس العمل العربى المشترك، وهو ما أصاب النجاح فى بعض حالات، وقف أمامها العرب وكأن الأمر لا يعنيهم، ربما لأنها تتم بعيداً جغرافياً، أو ربما بسبب الشعور بالضعف، أو انتظاراً لمكافأة ما، وفى النتيجة الكلية سُحقت فكرة التضامن العربى تماماً.
دور الخيانة فى التاريخ معروف، فكل الخونة قدموا الكثير لمن تصوروا أنهم سيقدرون تلك الخيانة وسيجزلون العطاء نظير تسهيل القضاء على بلدانهم أو وضعها تحت الحماية والوصاية غير المشروعة، ولكنهم فى النهاية ضُربوا فى مقتل ولم يهنأوا بمكافأة أو أجر، ولا تُذكر أسماؤهم إلا مصحوبة بالاستنكار والمهانة واللعنات. كل من يسهّل استعمار بلاده أو وضعها تحت وصاية أجنبية أو يمارس دوراً مباشراً أو غير مباشر فى ضرب استقرار مجتمعات عربية أخرى، أو يشن عليها حملات إعلامية ودعائية بغية إسقاطها من الداخل، سواء دول كقطر أو جماعات إرهابية كالإخوان وأنصارهم، هم من تلك الفئة الخائنة البغيضة والملعونة فى الدنيا والآخرة. تصرفات هؤلاء ترجع لغيبوبة عروبية، ولتكوينهم الذاتى واستعدادهم لأن يكونوا قوادين سياسيين، وثالثاً ارتباطات أيديولوجية توظف الدين لأغراض دنيوية بحتة. والنتيجة تخصم الكثير من أسس التضامن العربى، وتحوله إلى عبء على البعض ممن يضعون الانتماء للعروبة أولوية لهم. الذين يفرحون لأزمة بلد عربى آخر، ويثيرون الفتن، ويمدحون الخونة باتوا كثيرين ومطلوب تعريتهم وصد تأثيراتهم فعلاً، وليس فقط بالتعبير عن الاستياء اللفظى الذى لا يُغنى ولا يسمن.
جزء من الصورة العربية العامة يكشف عن غياب التفكير العقلانى ذى الطابع المستقبلى. حالتا سوريا وليبيا تفصحان عن الكثير فى هذا المجال. إسقاط سوريا أو الصمت عن ذلك وعدم مقاومته، وتقديمها فريسة لكل من هب ودب من دول وجماعات إرهابية وتقسيمها ونهب ثرواتها واحتلال ثلث مساحتها، لا تقف تأثيراته على سوريا وحدها، فضعف المواجهة العربية رفع مطامع المحتلين والاستعماريين، كما هو الحال لتركيا وإيران، لمزيد من الاندفاعات نحو العراق وليبيا والصومال والكويت واليمن ولبنان. كل هذه الحالات العربية المرتبكة والفاشلة بمعايير الدولة الوطنية هى نتيجة مباشرة لخيانة القومية العربية بمستوياتها المختلفة.
حذرنا كثيراً من تحول ليبيا إلى بؤرة للإرهاب، تمتد تأثيراتها إلى الجوار المباشر عربياً وأفريقياً، ونادينا بعمل عربى جماعى ضد عملاء تركيا وأذنابها، على الأقل تقوده دول جوار ليبيا. دعوات تحقق مصالح وأمن الدول المحيطة بليبيا لم تجد القبول المناسب. كثيرون أغمضوا أعينهم، وبعضهم سد الآذان، وما زال يسدها تماماً، رغم كل الشواهد والدلائل على أن ليبيا تحت الوصاية التركية هى قنبلة موقوتة سوف تنفجر فى وجه المتقاعسين. ثمن المواجهة اليوم هو أقل بكثير من ثمن المواجهة لاحقاً. نأمل صحوة وعى ذاتى وعروبى فى آن واحد. الاستثمارات التركية الموعود بها بعض العرب حول ليبيا، ومعهم بعض الأفارقة ليست سوى طعم سيقود إلى مهالك لا حصر لها. من يأتى بالإرهاب والمرتزقة ويسيطر على موارد ليبيا ويقيم فيها ليحرك الاضطرابات حولها يستحق الرد بمواجهة فاعلة وليس بسكون وجمود، فالزمن لا يقف أبداً مع الجامدين الساكنين الغافلين.
الدول العربية التى ما زالت تحافظ على قوامها كدول وطنية متماسكة، وتلتزم بحد أدنى من التضامن العربى، تجد الصد والمراوغة من الخونة وداعمى القضاء على العرب والعروبة، وليس أمامها سوى مسارين عمليين، إما التبرؤ التام من العرب والعروبة والبحث عن مصالحها الذاتية المباشرة، ما يزيد التفكيك فى المنطقة ويعطى فرصاً أكبر لقوى الاستعمار والطمع والخيانة لتحقيق مكاسب أكبر حجماً وأوسع انتشاراً، ما يضع قيوداً على تلك الدول فى المستقبل ويحاصر منجزاتها ويزيد التهديدات والمخاطر حولها. أما المسار الثانى فهو أن تشكل تلك الدول حائط صد جماعياً ضد خائنى العروبة وداعمى الاستعمار. هناك صعوبات بالقطع، والاستعداد لها مطلوب. التخلى عن مبدأ الخلاص الفردى أهم عناصرها، قبول التعاون الشفاف مع العرب الصادقين هو طريق الخلاص للجميع. حملة منسقة بين هؤلاء لفضح خونة العروبة هى أولى الخطوات، مصحوبة بتنسيق عملى وليس مجرد أمنيات. الصحوة العروبية المطلوبة ليست مجرد شعار، ولكى تحقق أهدافها علينا أن نتعامل معها كاستراتيجية للبقاء والنهوض، والحفاظ على هويتنا كمجتمعات مستقلة وفاعلة إنسانياً وحضارياً.