الشوارع الخلفية فى الحى الدبلوماسى
عندما تغيب الدولة تذهب سلطة القرار فورا إلى الشارع.. ويصبح هذا الغياب بمثابة تفويض ضمنى للمواطنين باتخاذ ما يلزم.. وبناء عليه عندما يغيب تخطيط الدولة فى التوسع العمرانى مثلا يقوم المواطنون بالتخطيط مباشرة ويقيموا ما يعرف بالعشوائيات.. وعندما يغيب تخطيط الدولة للأجور يحصل المواطن على الأجر الذى يريده ولكن وفق تخطيطه أى كانت السبل.. وعندما يغيب موقف الدولة السياسى والدبلوماسى فى القضايا والأزمات ذات الطبيعة الجماهيرية يتولى الشارع إدارة الأزمة، فنكون أمام عشوائيات سياسية ودبلوماسية وهو ما حدث أمام السفارة الأمريكية عندما انفجرت التظاهرات غضبا بسبب الإساءة لرسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) فى فيلم عنصرى مقيت، وهنا لا أقيم محاكمة بالقلم لمن انفجر دفاعا عن رمز دينه ولكنى أبحث فى مسئولية الدولة.
واقع الأمر أن هناك حقيقة يدركها المدقق فى ملف السياسة الخارجية لمصر منذ تولى الرئيس محمد مرسى المسئولية، وهى وجود تفاوت بين التحرك الدبلوماسى والموقف الدبلوماسى.. بمعنى أن الرئيس قام بعدد من الزيارات الخارجية فى مجملها تعكس أنها حركة مبنية على أسس وليست عشوائية وأن مصر تعرف أين تضع أقدامها، وكانت الحركة سريعة ومتشعبة جنوبا وشرقا وشمالا وغربا، وانتقلت مصر فى ملف سوريا من موقع المعلق على الحدث إلى موقع المبادرة وظهر الثقل المصرى بالقدرة على احتواء أدوار إقليمية أخرى وجعلها تسير معه على نفس الجسر.
أما الموقف الدبلوماسى فما زال ضعيفا غير قادر على شرح وجهة النظر المصرية والدفاع عنها والقيام بحملات مضادة إذا تطلب الأمر.. يخرج أوباما ليعلن أن القدس عاصمة لإسرائيل ولا تجد صوتا لمصر يرد ويؤكد على ثوابتنا فى القضية الأم كأنه رضاء ضمنى من مصر التى باتت تختزل القضية الفلسطينية فى قطاع غزة وتكافئ شارون فى غيبوبته بأنها استجابت لمخططه وتلقت مسئولية القطاع بدلا من إسرائيل.
وفى أزمة الفيلم وهى معروفة إعلاميا منذ الأول من سبتمبر لم تستبق مصر الأحداث بموقف دبلوماسى يدين ويحذر من الإقدام على هذا الفعل ولم تصعد بتكليف سفيرها فى واشنطن بتقديم مذكرة احتجاج للخارجية الأمريكية يعبر فيها عن رفض مصر لمثل هذا العمل أو الإقدام عليه، وتركت الأمر إلى أن انفجرت الجماهير، فجاء أخيرا الموقف الدبلوماسى ولكنه جاء فى وضع الدفاع والضعف ليؤكد على التزامات مصر الدولية فى حماية السفارات.
وهذا التفاوت يقودنا إلى مسألة غاية فى الأهمية وهى كيف يصنع الموقف الدبلوماسى لمصر الآن؟ فى تقديرى أن موقف مصر تفرق دمه بين ما يمكن تسميته بالشوارع الخلفية لصنع القرار الدبلوماسى.. هذه الشوارع التى يواجه فيها وزير الخارجية محمد كامل عمرو أزمة صريحة تتمثل فى كونه هو ومؤسسته يفترض أنهما أصحاب الكلمة الأصيلة فى السياسة الخارجية، فى الوقت الذى قام الرئيس فيه بتعيين مستشار للعلاقات الخارجية وهو الدكتور عصام الحداد ومستشار آخر وهو الدكتور عصام العريان مع وجود دبلوماسى مخضرم أيضاً بجوار الرئيس وهو السفير رفاعة الطهطاوى رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، هذا التعدد لحلقات صنع القرار الدبلوماسى وغياب الاستقلالية فى التحرك للجهاز الدبلوماسى باتا ملموسين فى بطء رد الفعل المصرى أو غيابه وحصر الخارجية وزيرا ووزارة فى دور المنفذ الحرفى لما يأتيها من تعليمات، وعليها هى وحدها أن تكون فى صدر لوحة التنشين الشعبى والدولى بتحمل تبعات تأخر هذه التعليمات أو غيابها.