الحج صدقات تسبق صلوات!
هناك آيات مطولة عن تفاصيل خطوات وأدعية الحج وهناك بالمقابل خطوات مختصرة جداً فى مناسك وأدعية الحج، سورة البقرة الآية ١٨٩ «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» تبدأ بتحديد آلية تحديد مواقيت العبادات فى الإسلام ومعها حدث انقلاب فى جدول الزمن من دوران الشمس إلى دوران القمر واختار الله للمسلمين التوقيت القمرى الذى حددت سورة الكهف الفارق بينه وبين الشمسى بعدد ٩ سنوات فى ٣٠٠ سنة وحرصت السورة على تحديد الفرق لأن وقت أهل الكهف المسيحيين الذين حاربهم الإمبراطور الوثنى كانوا يستخدمون حتى الآن التوقيت الميلادى فحرص القرآن مقدماً أن يلفت نظر المسلمين إلى توقيت آخر هو التوقيت القمرى، ولقد استخدمت الآية تعبير «يسألونك عن الأهلة» بالجمع أى أكثر من هلال وهو تعبير قد يحمل فى طياته أنها أهلة كواكب أخرى غير الأرض والقمر الملحق بها، إلا أن الإجابة جاءت حاسمة: «قل هى مواقيت للناس -كل الأمم- والحج» أى لمن أراد أن يحج من المسلمين، والغريب أن الآية تنتقل انتقالاً سريعاً لعدم دخول الأبواب للمنازل بدون إذن واعتبرت أن البر وهو أعظم الحسنات ألا تدخلوا البيوت من ظهورها ولكن من أبوابها، فهل فى هذا تفسير لجملة مواقيت للناس فى حياتهم اليومية ألا يدخلوا فى الليالى المظلمة أو أن يرتكبوا المنكرات فيها بدعوى أن لا أحد يراهم؟ طبعاً يجوز والله أعلم، أو ليفسر أحدهم لماذا سبقت مواقيت للناس أولوية الآية قبل أن تكون مواقيت للحج!
والغريب أن البر ألحق بآية أكثر تفصيلاً لمعنى البر الشامل وكلها خارج المعنى الدارج للبر بمعنى عمل الخير أياً ما كان، فتحدد نماذج البر بالإضافة إلى دخول المنازل وهى، سورة البقرة الآية ١77 «لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».
وقد يظن البعض أن هذه الآية ليست فى نفس سياق الأهلة كمواعيد وكحج لا أن الآية تعود لتؤكد للحوار العنيف الذى دار من اليهود وأهل الكتاب عن تغيير القبلة وهو المكان مع استخدام التقويم القمرى كزمان باللوم على المسلمين لتركهم القدس قبلة واتخاذ المسجد الحرام كقبلة، ورغم الآيات المكررة بأن هذه قبلة يرضاها ويحبها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله يرضاها له ولنا قبلة وحيدة دون غيرها، فهكذا تقول الآية بوضوح «أينما تكونوا فثم وجه الله» ولا داعى لخلاف أهل الديانات الثلاث، فدعوا اليهود والنصارى للقدس ودعوا الكعبة والمسجد الحرام للمسلمين!
فهل الكعبة غير المسجد الحرام أو غير مناطق محددة للحرم جنوباً للمصريين وشرقاً لليمن وغرباً لفلسطين والأردن وشمالاً للعراق وما فوقها؟ بالطبع لا، الكعبة هى البناء الذى بناه الملائكة لآدم وحواء كى يعبدوا الله بعد نزولهم للأرض وتعارفهم فى جبل عرفة بعدما هبطوا من جنة الخلد، وطبعاً الكعبة هى البيت الحرام ولكن المسجد الحرام يمتد ليشمل كل منطقة الحرم المحددة من الرسول صلى الله عليه وسلم بعلامات الحج فمن الممكن أن يتسع المسجد الحرام ليشمل كل هذه الحدود وهى أقصى سعة للحجاج وبعدها لا زيادة فى المساحة وغالباً سيحدث هذا قبل علامات الساعة بقليل، وهكذا تحسم الآية معنى البيت ومعنى الحرم، سورة المائدة الآية 97 «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ»، ثم تختصر الآية كل أركان الحج فيها أن الناس يقومون سفراً لها ويقيمون حجاً وعمرة حولها، وذلك فى شهر ذى الحجة مع الحرص على باقى المناسك وأهمها الهدى والقلائد.
غريب الكلمات: (قِيَاماً) أى قواماً لهم، يقوم به معاشهم ومعادهم، ودينهم ودنياهم وأمنهم، وأصل (قوم) مراعاة الشىء والحفظ له، والانتصاب والعزم.
(والقلائد) أى: ما قلد من الهدى، وكانوا يقلدون البعير من لحاء شجر الحرم، فيأمن بذلك حيث سلك، والقلد الفتل، وأصل (قلد) يدل على تعليق شىء على شىء وليه به، وعلى حظ ونصيب.
مناسبة الآية لما قبلها: لما حرم الله تعالى فى الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، وبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات فى الدنيا والآخرة، فقال سبحانه «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ» أى: صيّر الله تعالى حرمه قواماً للناس، تقوم به مصالح دينهم، من صلاة وحج وعمرة، وغير ذلك، وتقوم به أيضاً مصالح دنياهم، بما يجبى إليها من ثمرات كل شىء رزقاً من عند الله تبارك وتعالى، وبما يحصل فيه من الأمن، وبما يحصل فيه من اجتماع للمسلمين، فيتعارفون.