الثقافة بين ثورتَى 23 يوليو و30 يونيو 

عندما أذاع الضباط الأحرار بيانهم الأول فى صبيحة 23 يوليو 1952 أوردوا فيه أن من أسباب قيامهم بالثورة أنه تولى أمر الجيش «إما جاهل أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها»، وإيراد الجهل هنا لا يعنى علمه بالأمور العسكرية، بل نستطيع أن نقول إنه الجهل الذى هو عكس المعرفة والثقافة، بما يمثله الجيش لمصر وما تمثله مصر للجيش، وهو مستوى أعلى للفهم والوعى بالدور والمهمة فى منطقة كانت ولا تزال مصر لاعباً مهماً فى حركتها.

لقد بدا أن المعرفة والثقافة يجب أن تقوما بدورهما فى المجتمع المصرى فى المرحلة الجديدة من تاريخ مصر، وثورة يوليو التى توجهت نحو القطاع الكبير من المجتمع المصرى بإصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية اهتمت به أيضاً ثقافياً، فقبلها لم تكن الثقافة أو المعرفة متاحة إلا لمن يملك ثمنها، ولم تكن الشريحة العظمى من أبناء الوطن تستطيع أن تستمتع بمجالات الثقافة إلا إذا كانت تملك الثمن، فلا المسرح أو السينما أو حتى الكتاب يستطيع المواطن البسيط أن يناله إلا إذا امتلك المقابل، واقتصر ذلك على فئة قليلة لا تزيد نسبتها على 5% من سكان مصر.

حتى المثقفين ورجال الفكر والأدب ومن يملكون مواهب لم يجدوا الأبواب مفتوحة لنشر أعمالهم بكل يُسر وسهولة، فقد اقتصرت الفرص على من يملكون معارف أو صلات أو انتماءات حزبية، وهى أمور حرمت مصر من مواهب أدبية وفكرية ظلت حبيسة قرى مصر البعيدة وكثير من مدنها، بل ولعل الكثير منهم قد ضمه الثرى قبل أن ترى أعمالهم وأفكارهم النور وتساهم فى تقدُّم ورقى مصر وتزيد من الفكر الإنسانى.

إن حال الثقافة قُبيل ثورة 23 يوليو كان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتوجهات الطبقة الحاكمة وما يدور فى فلكها وما تنطوى عليه الحياة السياسية الحزبية التى أصابها كثير من التحلل قبيل الثورة، وانعكس بالتالى على الحياة الثقافية المصرية، واقتصرت مؤسسات الثقافة القليلة على القاهرة والقليل من عواصم المحافظات خدمة لأبناء الطبقة الحاكمة التى تمتلك ثمن ذلك.

وعندما قامت ثورة 23 يوليو أُلقى على عاتق رجال الثورة أمل تحقيق أحلام كثير من أبناء مصر المثقفين والمفكرين الذين أُوصدت أمامهم الأبواب، وتطلعت أنظار أبناء الطبقة العريضة من أبناء الوطن نحو ممارسة الثقافة والفن بل وأمل تحقيق حلمهم فى مشاهدة المسرحيات والأفلام السينمائية وقراءة الكتب وممارسة الفنون بكل أنواعها، ولم تتأخر ثورة 23 يوليو عن تحقيق الأحلام والآمال، فلم تنقل المصريين إلى مسارح وسينمات ومكتبات القاهرة بل نقلت لهم المسارح والسينمات والمكتبات، وفتحت الأبواب على مصاريعها لكل من يملك موهبة ليقدمها لمصر والعالم وللرقى بالإنسانية.

إن ما أنشأته ثورة 23 يوليو من مؤسسات ثقافية ما زلنا نعيش على كثير منه اليوم ولم نضِف إليه إلا القليل مثل «الثقافة الجماهيرية» التى صار اسمها «قصور الثقافة»، والتى انتشرت فى قرى ومدن مصر، وأكاديمية الفنون التى ضمت معاهد فى مختلف الفنون، وسلسلة المسارح والسينمات التى انتشرت فى ربوع مصر، وسلاسل الكتب فى كل مجالات المعرفة ثقافية وفنية وتراثية ودينية، وترجمة النتاج الفكرى العالمى للمصريين، وقد استنسخ البعض بعض مشاريع ثورة 23 يوليو الثقافية بأسماء جديدة، مثل سلسلة الألف كتاب التى صدرت عام 1955، والمكتبة الثقافية وأعادوا نشرها باسم «مكتبة الأسرة».

إن الفن المصرى يدين لثورة 23 يوليو بالكثير فهى -إن جاز لنا القول- من مصَّرت الأفلام والمسرحيات التى كانت تتم فى ذلك الوقت، فقبل الثورة كان أهل الفن يعتمدون على ترجمات الأعمال الأدبية العالمية وتحويلها لأعمال مسرحية أو إذاعية أو سينمائية، وبعد الثورة فُتح الباب أمام كبار الأدباء المصريين لتحويل أعمالهم إلى أعمال فنية يشاهدها المصريون حتى وقتنا الحالى، وازدهر الغناء فى عهد ثورة 23 يوليو وتنوع ولم يغِب عن احتياجات الوطن والمواطن، والمجال ضيق للسرد، فيكفى أن ننطق بكلمة «غناء» وتتداعى إلى الذاكرة الكلمات والألحان والمطربون الكبار زمن ثورة 23 يوليو.

وقائمة المبدعين فى جميع مجالات الآداب والفنون والفكر والثقافة التى أفرزتها ثورة يوليو كبيرة، حَوَت أسماء تُفاخر بها مصر الأمم حتى وقتنا الحالى. إن المصريين مدينون لثورة 23 يوليو فى مجالات الثقافة بكثير من العرفان على ما قدمته للمواطن البسيط قبل المواطن المثقف وما قدمته للقرية قبل المدينة.

وعلى خُطى 23 يوليو فى مجال الثقافة يسير ركب ثورة 30 يونيو فى مجالى الرؤى والتخطيط، إلا أن التنفيذ على أرض الواقع يحتاج إلى مزيد من الجهد والوعى والإدراك الذى ما زال مفقوداً لدى كثير من رجال الثقافة والفكر فى مصر، فإدراك طبيعة المرحلة وما يجب أن تقوم به الثقافة غائب عن مسئولين كُثر، وكثيراً ما نبه قائد ثورة 30 يونيو الرئيس عبدالفتاح السيسى لأهمية الثقافة ودورها فى بناء الإنسان المصرى والارتقاء بوعيه وفكره وإدراكه لدور مصر والمخاطر المحيطة بها، وكذا أحلامها ومستقبلها وما يجب أن تكون عليه فى السنوات القادمة حماية لأمنها ولأجيالها القادمة، وأن كل تطور وتقدم لن تكون له أهمية إذا لم يكن هناك وعى وفهم حقيقى لدى المواطن المصرى، ومؤسسات الثقافة مسئولة مسئولية كاملة عن بناء الإنسان المصرى ثقافياً وتقوية روحه والرقى بأخلاقه وقيمه والمحافظة على وعيه قوياً.

وقبل أن يصل الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الحكم كانت اللقاءات القليلة له وأحاديثه فى الشأن العام توجَّه إلى أهمية نشر الوعى والمعرفة وضرورة إدراك المرحلة التى تمر بها مصر وخطورتها، وكثيراً ما ركز على مفاهيم الوعى والإدراك والمعرفة، وكلها مفاهيم أصيلة فى دور الثقافة وما يجب أن تقوم به.

وبعد أن وصل إلى الحكم كان الاهتمام كبيراً بالمؤسسات التى تعمل على نشر الوعى والمعرفة والإدراك وهى المؤسسات التعليمية والثقافية والشبابية والمؤسسة الدينية، ورصدت أموال ضخمة للرقى بالمؤسسات الثقافية، ورأينا إقامة المزيد من المنشآت الثقافية وإعادة بعض ما أغلق أو تهدَّم أو اُحترق، ليمارس الشعب المصرى منها الثقافة بكل تنوعها، وأستطيع أن أجزم أن إدارة هذا الملف لم تكن بالكفاءة المطلوبة للاستفادة من كل ما وفَّرته الدولة المصرية لنشر المؤسسات الثقافية فى ربوع مصر كما لم تستغل جيداً من رجال الثقافة لتنمية الوعى والانتقال بالثقافة المصرية خطوات إلى الأمام.

وعلى طريق التوسع فى إنشاء مؤسسات الثقافة المصرية، جعل الرئيس عبدالفتاح السيسى أحد أهم مكونات العاصمة الإدارية الجديدة «مدينة الثقافة والفنون»، وأن يكون لها نظير فى مدينة العلمين الجديدة.

وشيئاً فشيئاً رأينا توجيهات سياسية بالاهتمام أكثر بالثقافة ووضعها فى بؤرة الاهتمام والضوء ونقلها إلى فضاء أرحب، فأعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى «عام 2020 عام الثقافة والوعى»، لقد بدا أن ترسيخ الهوية وتعزيز قيم المواطنة، ونشر المعرفة والتنوير بحاجة إلى جهد كبير لحماية المجتمع من أخطار التطرف والتعصب، وأن القيم الإيجابية فى المجتمع تحتاج إلى مزيد من الحراك حتى يحافظ المجتمع على تماسكه فى ظل ما يموج به العصر من وسائل تفكيك المجتمعات والأوطان، ولا شك أن الثقافة أداة مهمة لتحقيق أهداف هذه الأمة، وأن تخصيص عام للثقافة والوعى قد يكون إحدى أدوات تكثيف العمل لجرعة كبيرة من النشاط الثقافى قد تؤتى ثمارها فى أمة يقف على حراسة أبوابها رئيس مدرك لمخاطر العصر. إن ما لدى الرئيس كثير وكثير فيما يتعلق بالثقافة، ولكننا نحتاج إلى من يعمل على أرض الواقع بما يتفق وأحلام رئيس مؤمن بوطنه وعازم على تحقيق أحلام أبنائه، وما مضى قليل وما هو آتٍ كثير.

إن مصر فى مرحلة مهمة من تاريخها تحارب فى كل المجالات بكل قوة، وصامدة أمام حالة فريدة لم تمر بها فى تاريخها، فالنيران مشتعلة على حدودها الأربعة، وهناك محاولات خبيثة لإشعال الداخل أيضاً، وهناك من أبناء الوطن من لم يدرك ما هو دوره فى هذه المرحلة، بل إن بعض رجال الفكر والثقافة فقدوا بوصلتهم فى هذا الوقت ووقفوا بعيداً متفرجين متمترسين خلف رؤى وأفكار يرددونها ليل نهار رأوا أنها على الطرف الآخر مما يقدمه النظام الذى أفرزته ثورة 30 يونيو، والبعض الآخر كفَّ عن دوره انتظاراً لما تسفر عنه تجربة الحكم الحالية، وهؤلاء جميعاً تركوا مصر تواجه المخاطر، وهو ما أضعف دور الثقافة فى الحراك المصرى الحالى، بل سمح لآخرين بأن يقوموا بدور المؤسسات الثقافية المصرية، وهو ما قد ينطوى على مخاطر كبيرة.

ولعلنا لا نُغالى إذا قلنا إن مؤسسات الثقافة فى عصرنا الحالى تعانى من ضعف فى قدرتها على تقديم أجيال من المبدعين الجدد الذين يستطيعون القيام بدورهم فى هذا العصر الملىء بالتحديات والمخاطر.

إن ثقافة ثورة 30 يونيو تحتاج إلى قيادات قادرة على بث الحماسة والوعى فى أجيال من المبدعين المنتشرين فى أنحاء وقرى مصر من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.

إن مصر فى حاجة إلى قيادات ثقافية تفتح المجال أمام أعمال إبداعية جديدة فى جميع مجالات الثقافة والفن وتقدمها للمواطن المصرى فى جميع ربوع الوطن.

إن الوطن فى حاجة إلى تقديم وجوه جديدة تؤمن بالوطن وتدرك قيمته والمخاطر المحيطة به، وكما قدمت ثورة 23 يوليو مبدعين افتخرت بهم أمام الأمم، فقد آن لثورة 30 يونيو أن تقدم مبدعيها للوطن وللحضارة الإنسانية.

فهل تشهد الأيام القادمة ظهور تلك القيادات؟ ندعو الله أن يحقق لمصرنا ذلك، تحت قيادة رئيس مهموم ببناء مصر الحديثة القوية القادرة على استعادة مجدها بإنسان مثقف وواعٍ ومدرك لمكانتها.