ثقافة الحمير

رجائى عطية

رجائى عطية

كاتب صحفي

لم أكن أتخيل قط أن هناك ثقافة للحمير!

لم يداخلنى هذا الظن مع أننى تابعت ما كتبه أدباؤنا عن الحمار، مثلما فعل كاتبنا الفذ الأستاذ يحيى حقى فى فصله الرائع: «وجدت سعادتى مع الحمير»، ضمن مجموعته الرائعة «خليها على الله».

جاء الحمار فى الموروثات الشعبية والأمثال العامية، رمزاً للغباء أو العناد أو الاستسلام لقاهرات المقادير.. «غُلب حمارى»، كتعبير عن فراغ الوفاض!.. «زىّ الحمار ما يجيش إلا بالنخس» كمثل لمن لا يطيع إلا بالشدة والوخز!.. «زىّ الحمار يحب يشيل التلاليس»، تعبيراً عن أثر الاعتياد فى تحمل ما لا يطاق!.. «زىّ حمير التراسة يتلكك على قولة هس» لضرب المثل عمن يلتمس المعاذير للتوقف عن العمل!.. «زىّ حمير العنب تشيله ولا تدوقه»، تعبيراً عمن يُسَخَّر فى ما لا يعود عليه بأى نفع!.. «زىّ حمير الغجر ينهقوا وهمّ نايمين على جنبهم».. لضرب المثل على الاقتصار على الجلبة والصخب دون حركة ولا عمل!!

وأشهر أدبائنا فى اتخاذ الحمار مادة للدراسة، أو سبيلاً للاستعارة والكناية: يحيى حقى وتوفيق الحكيم.. لحق بهما كاتبنا الساخر المبدع محمود السعدنى.

حين تتابع الأستاذ توفيق الحكيم، تراه مغرماً باستخدام الحمار عنواناً واستعارة منذ عام 1938، نشر مقالات صارت كتاباً بعنوان: «حمارى قال لى»، ثم كتب «حمار الحكيم» سنة 1940، فى شكل رواية أو لوحة، وصدرت فى إحدى طبعاتها بعنوان «حمارى الفيلسوف» (1975)، وإلى هذا الحمار أهدى توفيق الحكيم روايته، فيقول: «إلى صديقى الذى وُلد ومات وما كلمنى لكنه.. علمنى!».. تبدو الاستعارة فى الكتاب من باب الفلفل والبهارات، أو من عناصر التشويق والجذب.. فى تصدير اللوحة، نقلاً عن أسطورة قديمة، يتساءل حمار الحكيم «توما»: «متى ينصف الزمان فأركب، فأنا جاهل بسيط، أما صاحبى فجاهل مركب؟!». فقيل له: «وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب؟». فقال: «الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل، أما الجاهل المركب فهو من يجهل أنه يجهل»!

استعارة «الحمار» وإناطته بأدوار وحوارات، وبمشاهد ومواقف، ظاهرة حاضرة فى كتابات توفيق الحكيم.. مع السنين أضاف مقالات ولوحات إلى كتابه: «حمارى قال لى»، وأعاد نشرها فى كتابه: «حمارى وعصاى والآخرون». وعاود استعارة الحمار فى قوالب مسرحية فى فصول مسرحيته «الحمير»..

لكن أديبنا الفذ الأستاذ يحيى حقى يعلق بصراحة فى الفصل الذى ألمحت إليه، بأنه وجد سعادته مع الحمير، وتحت العنوان يورد لنا دراسة شيقة عن هذا الحيوان المسكين الذى تعاطف معه.. فى هذه القصة الرائعة يحدّثنا عن حمار الأجرة والحمار الملاكى، وعن درجات الحمير: حمير السبخ، وحمير الأجرة بمحطة السكة الحديد أكثر الحمير مكراً.. ابن سوق محنّك بالتجارب، وحمار الفلاح، وعلى رأس القائمة حمير الطبقة الأرستقراطية التى أوشكت الآن على الانقراض فى الريف. حمارهم «فاره قوى، منتصب الرقبة مرفوع الرأس، راقص الخطوة، أكحل العينين، له بردعة من جلد ثمين أو قطيفة مزينة، ولجام وركايب، أكله موفور وتعبه قليل.. يضن به صاحبه إلاّ على كبار الحكام»!.. أما «مدرسة الحمير» فشىء لا ندركه إدراكاً حقيقياً إلاّ من دراسة يحيى حقى. هى مدرسة بالفعل، عجيبة مختلطة.. «من تلاميذها أيضاً الخيول والبغال. من أصحابها من يطلبون تعليمها مشية الرهوان غراماً بالأناقة والصبونة، ومن تلاميذها الحمير الأرستقراطية المطلوب أن تتعلم المشى كالرقص المكفول بأصول وقواعد تضمن بقاء الظهر كالبحر الهادئ، رغم هدير الحركة الراقصة». بالمدرسة قسم خارجى وآخر داخلى. فى القسم الخارجى تلاميذ أو حمير الجيران، ينصرفون فور تلقى الدرس، أما القسم الداخلى فللآتين من بعيد، مع كل تلميذ زاده وزواده من الفول والتبن والدريس»!.. لا يتركك يحيى حقى دون أن يحدّثك عن «حمير القاهرة»: الشعبية والأرستقراطية، فلها خصوصيتها، ولها فى ذلك الأوان مواقف انتظار بلافتات مثبتة على الأعمدة، بعضها لثلاثة أو أربعة أو ستة، حسب حركة النقل بالمكان. يذكر منها يحيى حقى لافتة سور حديقة الأزبكية أمام مدخل فندق الكونتننتال، وموقف العتبة الخضراء الذى كان من زبائنه. أما «لصوص الحمير»، و«نكت الحمارة» فعالم آخر لا يقل عنه طرافة «حمار السيرك»، وهو سلالة متطورة من حمار الحاوى، يختلط سحره ومواصفاته ومهاراته بسحر السيرك الذى كان جل متعة الناس فى النصف الأول من القرن الماضى!

على أن أبدع ما كتبه يحيى حقى، هو الغوص النفسى، ولا أبالغ فى دراسة أغوار هذا الحيوان الطيب.. يقول عنه يحيى حقى: لم أرَ كالحمار حيواناً تحس أنه أدرك أنه أُسقط فى يده، أنه لم يقبل قدره عن عمى وغفلة أو تدليس عليه، بل عن بصيرة وفهم، بعد أن وازن بين حيلته وقدرة ظالمة، وقاده ذكاؤه العملى إلى الاقتناع بأن كل أمل قد مات، وأن لا فائدة تُرجى من الثورة أو اللجاجة أو العناد، فوضع إرادته وغرامه وبهجته ومرحه وحبه للعب والمعابثة فى حرز مكتوم فى قلبه، وأحنى رأسه وأذنيه وسبّل ظهره، واستسلم بلا قيد ولا شرط.

أما الأستاذ محمود السعدنى، فلم يضع حماره فى قوالب فنية أو روائية أو مسرحية كما فعل الأستاذ توفيق الحكيم، ولا اتخذ من دنيا الحمار موضوعاً لدراسة كما فعل الأستاذ يحيى حقى، وإنما جعل للحمار دولة ليمضى سالماً ساخراً فى جلد الذات والغير فى «حمار الشرق» و«عودة الحمار»!

طفت بكل هذا وكتبت عنه تفصيلاً من ثلاث عشرة سنة فى مجلة الهلال (1/ 7/ 2007)، لكنى لم أتخيل قط إمكان وجود «ثقافة للحمير»، صدمتنى هذه الحقيقة الفاجعة وأنا أطالع من 12 عاماً ثورة تجار وأسر تجار لحوم الحمير الحية والنافقة وهم يستقبلون حكم القضاء بإدانة التجار وعقاب اثنين منهم بالحبس خمس سنوات، وشريك لهما بالحبس سنتين!

ظنى أنه لو كان القانون يسمح، لربما حكم القاضى بالإعدام أو فى أقل القليل بالسجن المؤبد.. أليس يُعاقب شاهد الزور بالإعدام إذا أدت شهادته المزورة إلى إعدام برىء؟!

فلماذا إذاً فوجئ تجار الحمير وأهاليهم بالحكم؟! وما سبب هذه الثورة العارمة التى ثارها التجار وأهاليهم واعتدوا فيها على الصحفيين والمصورين فور صدور الحكم؟! وهل كانوا ينتظرون وساماً أو نيشاناً من المحكمة لقاء إطعام عباد الله، لحوم الحمير، ولم يكفهم الحيّة، فاستخسروها فيهم، وألقموهم النافقة؟! ما سر هذه البلادة وفقدان الحس وانعدام الضمير وجهالة عدم تقدير شناعة الجريمة المنكرة التى ظلت ربما لسنوات تطعم مخاليق الله من لحوم الحمير، حتى تم اكتشافها رغم أنوف الحمّارين!

لا معنى لهذه الثورة الجهولة فى استقبال الحكم، والاعتداء على الصحفيين والمصورين، إلاّ إذا كان الثوار على اقتناع بأنه لا بأس من أكل لحوم الحمير، حتى إن كانت نافقة أيضاً! لو كانوا هم الذين طعموا ما شاء لهم من لحم الحمار، لكان يمكن أن يعزى ما فعلوه إلى حريتهم الشخصية! لكنهم أطعموا الغلابة غشاً وخداعاً وألقموهم جيفاً لحمير وهم يظنون أنهم يأكلون لحوم ذبائح حلال وذُبحت ذبحاً حلالاً!.. فهل لا بأس من ذلك ولا عليه ملامة؟! تصرف التجار وأهاليهم ورد فعلهم العنيف يؤكد أن هذا هو اقتناعهم الحقيقى بلا تصنع أو افتعال!.. هم لا يرون بأساً ولا تثريباً ولا ملامة فى ما يعتقدون أنه تجارة مباحة، فكيف أتاهم هذا الاعتقاد إلا أن تكون «ثقافة الحمير» قد طالتهم وشاعت فى فهمهم وصفحات وجدانهم وأمسكت بتلابيبهم فاختلط لديهم الحمار بالإنسان، أوليس يوجد من يأكلون لحوم البشر، فماذا إذاً لو أكلوا لحوم الحمير؟! وكله واحد، طالما شاعت «ثقافة الحمير»!!

مشهد الثورة على الحكم بالجلسة، وتفريغ الغيظ منه فى الصحفيين والمصورين، لا يعنى فقط أن جميع المعايير قد انبهمت وماعت، وإنما يحمل إنذاراً بأن «ثقافة الحمير» قد سادت وعمّت، وأن هذه ما هى إلاّ بشائر بأن الخيل والبغال والحمير لم تعد لركوبها وزينة كما قال القرآن المجيد، وإنما هى قد صارت طعاماً للبطون، وثقافة أيضاً للعقول!.