"عوض" له في البحر علامات.. جثمان الصديق حوّل الصياد إلى منقذ للغرقى

"عوض" له في البحر علامات.. جثمان الصديق حوّل الصياد إلى منقذ للغرقى
ابتلع البحر صديقه في مدينة يجهل دواخلها، اقتفى أثره مترحلا، سبعة أيام لم يذق فيها راحة، باع دبلته الفضية ودبلة صديق له للمؤونة، يناجي البحر أن يرأف بقلوبهم ويعثر على جثمان رفيق الدرب، تتلاطمه الأمواج، والحيرة سكنته لكن الأمل لم يفارقه، يحسب المسافات واتجاه الرياح يُعمل عقله وقلبه أملا في الوصول حتى طمأنه الله برؤية صديقه يبعد عن الشاطىء بمسافة 5 كيلو مترات، الدماء تتدفق وخطر الأسماك المتوحشة يشغل هاجسه بينما فؤاده انتصر بمرافقة الصديق لأكثر من ساعة حتى وجد البر ولسانه يتمتم "والله ما هسيبك"، تلك كانت المرة الأولى منذ أكثر من 25 عاما، وهي الأصعب في طريق احترفه "محمد عوض" في انتشال جثث الغرقى في البحار.
قولت لصاحبي "والله ما هسيبك" وكانت أول وأصعب مرة
الأعماق موطنه والغرقى مقصده، عمر قضاه بين الأمواج صائدا وجثمان صديقه الغريق حوّله منقذا، يشق العتمة أملًا في جبر خواطر أهل الغريق، يحادث الموتى حتى يصلوا إلى الشاطئ، يحملهم بين يديه على البر كالأطفال، في بدايته حلم بحمل الأسماك، فأمسك أنواعا نادرة وجميلة، كان طريقا سلكه ابن محافظة الغربية، الذي غواه البحر، لم يرثه عن الآباء ولم يمتهنه أصدقاء، فكانت الإسكندرية محطة الولع بالصيد والأسماك والمياه المالحة منذ بداية مراهقته، حيث انتقل للعيش فيها برفقة أسرته، يجالس كبار السن من هواة الصيد، يكافئ نفسه في نهاية الامتحانات بالجلوس عند ترعة المحمودية، يتعلم الصيد ويمسك سنارة مَن يذهب لتناول كوب شاي أو غيره حتى يعود، مستقبلا توبيخ أسرته بصدر رحب، مراعيا خوفهم عليه من البحر.
ابن مدينة الحاضرة، حصل على دبلوم زراعة وامتهن وظائف متعلقة بالتفريخ وتربية الدواجن لسنوات وسافر إلى ليبيا للعمل في نفس التخصص، وقلبه متعلق بالبحر والصيد، يعاند الهواية لأجل الوظيفة الثابتة، حتى انتصر شغفه فاستقال وتفرغ لصيد الأسماك وبيعها، بتشجيع من صديق له، مستعينا بأدوات الغوص التي تعلق بها، وباحثا وراء رزقها حتى استقر في مدينة مطروح منذ عام 1993.
مباخدش مليم وبصرف من جيبي "معداتي وعربيتي وأوقات شغلي"
حكاوى عديدة لأكثر من نحو 200 عملية انتشال غرقى قام بها "عوض" بمفرده، غير العمليات التي شارك فيها آخرين على مدار 30 عاما، متذكرا ثاني واقعة بعد صديقه والتي كانت في مدينة مطروح أيضا، وعرض حينها على أهل الغريق أن يبحث عن الجثمان ورفضوا لارتباطهم بشخص قادم تم ترشيحه لهم، دون معرفة هويته وأنه الشخص المنشود، ليعتذروا له نظرا لما قابلوه على مدار 3 أيام من ابتزاز من كثير من الغواصين، يبحثون دون جدوى ويخرجون يطلبون أموال، أما هو فلم يتلق يوما أموالا نظير ما يفعله، وعرف أنهم يعملون بمجال الصيد في محافظة كفر الشيخ، فطلب منهم توفير قارب فقط يساعده في البحث، ليلاحظ تعكر المياه ويتبين السبب، مراكب الجر التي تدلى شباكها في البحر، ويطلب توقفها لعدم مناسبتها لطبيعة مياه مطروح الصافية، وإنما هي تناسب القاع الطيني.
وانتظر نصف ساعة حتى هدأت المياه وواصل البحث حتى لفت انتباهه أطراف أقدام وأطراف أصابع والجبهه والركبتان بارزات وسط الرمال، فأكمل تصور الشكل فى مخيلته وتيقن أنه الشخص المنشود، وحاول سحبه من الرمال، إلا أن شعوره بأن الجثمان قد يتمزق جعله يتوقف، غير مستمعا لنداء أهله بأن يضعه في القارب وهم سيتصرفون، فيطالبهم بشيء يلفه حوله ويحضرون "مشمع"، فنفضه من الرمال وأحكمه حوله ثم سحبه للخارج مطالبا إياهم بعدم جره حتى لا يتمزق.
صليب خشبي كان السبب في عثوري على جثمان مسيحي في مطروح
وفي عام 1997 تعرض لحادث سقوط من مرتفع على البحر ونتج عنه إصابة استغرقت علاج 5 سنوات، كان يضطر خلالها النزول لعمليات انتشال الغرقى على فترات مرتديا "جبس فايبر" ضد المياه.
"مفيش مليم أخدته، بصرف من جيبي، معداتي وعربيتي وأعطل أيام من الشغل، وكله لله"، فنذر جهده للرب ومن بعد تلك الواقعتين أصبح الأمر أكثر سهولة بالنسبة إليه وكسر الرهبة والفوبيا التي يعاني منها الغواصين في تلك الحالات.
13 شهرا، هي المدة التي مرت على توقف الرجل الستيني عن النزول بنفسه لانتشال غرقى، مكتفيا بالمشاركة في تنظيم الغواصين وتجميعهم لمثل تلك الحالات دون مقابل مادي، إلا أنه لايزال متذكرًا آخر غريق انتشله في فصل الصيف الماضي وكان "مسيحيا"، تلك المعلومة الوحيدة التي عرفها عنه من المتجمهرين وكان ذلك في شاطىء الغرام بمرسى مطروح، وهي المعلومة التي رنت في أذنيه مرة ثانية حينما وجد صليبا خشبيا في القاع أثناء بحثه، فانتشله وذهب لأسرة الشخص المفقود، وقابل والده، الذي أكد أن هذا الصليب لنجله، ليساعده ذلك في تحديد مكانه، ويخبرهم بانتظاره في السادسة من صباح اليوم التالي، وقد كان وجد جثمان الابن.
مواقف إنسانية لا تنتهي وعرفان بالجميل يحمله أهالي الغرقى لـ"عوض"، حتى أخبره أحدهم أن والده كان يتمنى رؤيته وهو على فراش الموت لانتشاله جثمان ابنه الذي سبقه ومات، إلا أن عوض يتعمد الابتعاد عن الأهالي إن أرادوا الوصال "علشان مقلبش المواجع، وعملي لله".
"خبراء الغوص والصيد بالهربون"، اسم المجموعة التي أنشأها محمد عوض عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" عام 2006، تضم ما يقرب من 25 ألف عضو، كانت تستهدف في البداية جمع الغواصين حتى يتمكنوا من تدشين نقابة لهم، حتى تحول مضمونها لفرق موزعة لانتشال جثامين الغرقى دون مقابل مادي، تحت مظلة جمعية الإنقاذ وحماية البيئة التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، مشاركا إياهم ودافعا لهم على الاستمرار في ذلك الطريق، منتشيًا بحماس الشباب الذي يقابله حتى كان منظما للمتطوعين في إنقاذ واقعة غريق ستانلي الشهيرة للشاب محمد حسن قبل عامين، والتي شغلت الرأي العام لأيام في البحث عن الجثمان، فكان يقود نحو 120 غواصا وينظم عملهم من البر.
وآخر الحوادث التي يتابعها عوض وينظم فريق الغواصين المتطوعين للبحث فيها هي حادثة غرق 11 شخصا في شاطىء النخيل بالعجمي في محافظة الإسكندرية، مرشدًا إياهم عن أسلوب البحث وطبيعة مياه المنطقة والأدوات المستخدمة.
"خبراء الغوص و الصيد بالهربون" متطوعون يطلبون الدعم ولو بـ"المعدات"
يتمنى عوض أن يتوفر لهم معدات تساعدهم في انتشال الغرقى، حيث يعتمدون على معداتهم الشخصية، لكن يوجد متطوعون دون عدّة، وتساعدهم مراكز الغوص، متمنيا تدشين فكرة توفر لهم ما يعينهم على البحث.